الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تكليف ما لا يطاق وكلام الإمام الطبري في ذلك

السؤال

قال تعالى: "يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [البقرة:21]، جاء في تفسير الطبري: "وهذه الآيةُ من أدلّ دليل على فساد قول من زعم: أنّ تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله، غيرُ جائز، إلا بَعد إعطاء الله المكلّف المعُونةَ على ما كلَّفه؛ وذلك أنّ الله أمرَ من وَصفنا بعبادته، والتوبة من كفره، بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون، وأنهم عن ضَلالتهم لا يَرْجعون"، فهل صحيح أن تكليف ما لا يطاق جائز؟ وكيف يُجمع بين ذلك وبين قوله تعالى: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفسًا إِلَّا وُسعَهَا" [البقرة:286]؟ أرجو التوضيح والشرح.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فمن أهل العلم من جعل القدرة لا تكون إلا مع الفعل، لا قبله؛ ولذلك جعلوا المتروك لا لعجز، وإنما لانشغال المحل بضده: مما لا يطاق. وأدخلوا في ذلك إيمان الكافر الذي علم الله أنه لا يؤمن، وقضى عليه بالضلالة؛ ولذلك قال الطبري قبل ذلك عند قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {البقرة:7}، قال: وهذه الآية من أوْضحِ الدليل على فساد قول المنكرين تكليفَ ما لا يُطاق إلا بمعونة الله؛ لأن الله جل ثناؤه أخبرَ أنه ختم على قلوب صِنْف من كُفَّار عباده، وأسماعهم، ثم لم يُسقط التكليف عنهم، ولم يَضَعْ عن أحدٍ منهم فرائضَه، ولم يعذِرْهُ في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم، والطبع على قلبه وسمعه، بَلْ أخبر أن لجميعِهم منه عذابًا عظيمًا على تركِهم طاعتَه فيما أمرهم به، ونهاهم عنه من حدوده، وفرائضه، مع حَتْمه القضاءَ عليهم مع ذلك، بأنهم لا يؤمنون. اهـ. وهذا الذي ذهب إليه الطبري صحيح من جهة، وغير مُسلَّم من جهة.

فهو صحيح من جهة نفي القدرة التي يكون بها الفعل، والتي هي معونة من الله تعالى لعبده المؤمن، ولكنه غير مسلَّم من جهة جعل هذه القدرة هي مناط التكليف.

وهذا يتضح ببيان أن القدرة نوعان، وليست نوعًا واحدًا، فقدرة هي مناط التكليف، وتكون قبل الفعل، وتقاس بالتمكن، وسلامة الآلات، وهذه يشترك فيها المؤمن والكافر، والطائع والعاصي.

وقدرة تكون مع الفعل، وموجبة له، تتعلق بمحبته، وإرادته، وهذه يتفضل الله بها على المؤمن دون الكافر، والطائع دون العاصي، قال الطحاوي في عقيدته: والاستطاعة التي يجب بها الفعل، من نحو التوفيق -الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به- تكون مع الفعل. وأما الاستطاعة من جهة الصحة، والوسع، والتمكين، وسلامة الآلات، فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها}. اهـ.

قال ابن أبي العز في شرحه: تنقسم الاستطاعة إلى قسمين، كما ذكره الشيخ -رحمه الله-، وهو قول عامة أهل السنة، وهو الوسط.

والذي قاله عامة أهل السنة: أن للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي، وهذه قد تكون قبله، لا يجب أن تكون معه، والقدرة التي بها الفعل لا بد أن تكون مع الفعل، لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرة معدومة.

وأما القدرة التي من جهة الصحة، والوسع، والتمكن، وسلامة الآلات، فقد تتقدم الأفعال. وهذه القدرة المذكورة في قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا}، فأوجب الحج على المستطيع، فلو لم يستطع إلا من حج، لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج، ولم يعاقب أحدًا على ترك الحج! وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام.

وكذلك قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}، فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة، فلو كان من لم يتقِ الله لم يستطع التقوى، لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى، ولم يعاقب من لم يتقِ! وهذا معلوم الفساد، وكذلك قوله تعالى: {فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا} والمراد منه استطاعة الأسباب، والآلات...

وأما دليل ثبوت الاستطاعة التي هي حقيقة القدرة، فقد ذكروا فيها قوله تعالى: {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون}، والمراد نفي حقيقة القدرة، لا نفي الأسباب، والآلات؛ لأنها كانت ثابتة. وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله: "ولا يطيقون إلا ما كلفهم". اهـ.

وقال أيضًا: والصواب: أن القدرة نوعان، كما تقدم: نوع مصحِّح للفعل، يمكن معه الفعل والترك، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي، وهذه تحصل للمطيع والعاصي، وتكون قبل الفعل، وهذه تبقى إلى حين الفعل، إما بنفسها عند من يقول ببقاء الأعراض، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول: إن الأعراض لا تبقى زمانين، وهذه قد تصلح للضدين، وأمر الله مشروط بهذه الطاقة، فلا يكلف الله من ليس معه هذه الطاقة، وضد هذه العجز. اهـ.

وقال: هذه الاستطاعة -مع بقائها إلى حين الفعل- لا تكفي في وجود الفعل، ولو كانت كافية؛ لكان التارك كالفاعل، بل لا بد من إحداث إعانة أخرى تقارن، مثل جعل الفاعل مريدًا؛ فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة، وإرادة، والاستطاعة المقارنة تدخل فيها الإرادة الجازمة، بخلاف المشروطة في التكليف، فإنه لا يشترط فيها الإرادة.

فالله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده، لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه، وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض، فالإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد، لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد، وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة، والقوة التامة؛ لزم وجود الفعل.

وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق، فإن من قال: القدرة لا تكون إلا مع الفعل، يقول: كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق. وما لا يطاق يفسر بشيئين: بما لا يطاق للعجز عنه، فهذا لم يكلفه الله أحدًا. ويفسر بما لا يطاق للاشتغال بضده، فهذا هو الذي وقع فيه التكليف، كما في أمر العباد بعضهم بعضًا، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا، فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف! ويأمره إذا كان قاعدًا أن يقوم، ويعلم الفرق بين الأمرين بالضرورة. اهـ.

وقد فصل شيخ الإسلام في هذه المسألة تفصيلًا حسنًا، وذكر الأقوال فيها، ونسبها إلى قائليها في الجزء المتعلق بالقدر من مجموع الفتاوى، وهو الجزء الثامن (من ص 290 : إلى ص 302).

وقال في المجلد نفسه بعد ذلك (8 / 469): ليس في السلف، والأئمة من أطلق القول بتكليف ما لا يطاق، كما أنه ليس فيهم من أطلق القول بالجبر. وإطلاق القول بأنه يجبر العباد، كإطلاق القول بأنه يكلفهم ما لا يطيقون، هذا سلب قدرتهم على ما أمروا به، وذلك سلب كونهم فاعلين قادرين. ولهذا كان المقتصدون من هؤلاء: كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأكثر أصحاب أبي الحسن، وكالجمهور من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، كالقاضي أبي يعلى، وأمثاله، يفصّلون في القول بتكليف ما لا يطاق، كما تقدم القول في تفصيل الجبر:

فيقولون: تكليف ما لا يطاق لعجز العبد عنه، لا يجوز، وأما ما يقال: إنه لا يطاق للاشتغال بضده، فيجوز تكليفه؛ وهذا لأن الإنسان لا يمكنه في حال واحدة أن يكون قائمًا قاعدًا، ففي حال القيام لا يقدر أن يفعل معه القعود، ويجوز أن يؤمر حال القعود بالقيام، وهذا متفق على جوازه بين المسلمين، بل عامة الأمر والنهي هو من هذا النوع، لكن هل يسمى هذا تكليف ما لا يطاق؟ فيه نزاع. اهـ.

وبين هذا النزاع في كتاب منهاج السنة النبوية، فقال: وإنما النزاع هل يسمى هذا تكليف ما لا يطاق؛ لكونه تكليفًا بما انتفت فيه القدرة المقارنة للفعل، فمن المثبتين للقدر من يدخل هذا في تكليف ما لا يطاق، كما يقوله القاضي أبو بكر، والقاضي أبو يعلى، وغيرهما، ويقولون: ما لا يطاق على وجهين:

منه ما لا يطاق للعجز عنه، وما لا يطاق للاشتغال بضده.

ومنهم من يقول: هذا لا يدخل فيما لا يطاق، وهذا هو الأشبه بما في الكتاب، والسنة، وكلام السلف؛ فإنه لا يقال للمستطيع المأمور بالحج إذا لم يحج إنه كلّف بما لا يطيق، ولا يقال لمن أمر بالطهارة والصلاة، فترك ذلك كسلًا، إنه كلف ما لا يطيق. اهـ.

وبذلك يتبين أن ما ذهب إليه الطبري، وإن كان موافقًا لقول عامة أهل السنة من حيث المعنى، إلا أن لفظه محدث، مخالف لما عليه السلف، وجمهور الأئمة؛ ولذلك قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية: ومنهم من يقول: ما لا يطاق للعجز عنه، لا يجوز تكليفه، بخلاف ما لا يطاق؛ للاشتغال بضده، فإنه يجوز تكليفه. وهؤلاء موافقون للسلف، والأئمة في المعنى، لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق؛ لكونه تاركًا له مشتغلًا بضده، بدعة في الشرع، واللغة؛ فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه! اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني