الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مذهب الحنابلة في تعدد الكفارة على مَن حلف يمينًا يقتضي التكرار

السؤال

قلتم: إن الكفارة تتكرر، إن نوى التكرار، أو كان لفظه يدل عليه، وقد وجدت أن القائلين بالتكرار في كفارة اليمين هم المالكية، والشافعية، وبعض الحنفية، فهل الحنابلة لديهم تكرار بـ: "كلما"، أو نية التكرار في كفارة اليمين؟ أعلم أن هذا لديهم في الطلاق، ولكن الطلاق يتعلق يمينه بالشخص، فهو يمين مستقل غير كفارة اليمين.
ومع إجلالي لعلمائنا، ولكني أظن أنهم اجتهدوا وقالوا قولًا ليس عليه دليل من السنة، وهم أعلم مني، لكني كإنسان طبيعي عاقل ذي عقل بسيط، أرى أنني مثلًا إن قلت وحلفت: والله، كلما مشيت خطوة إلى عملي خلال دقيقتين مثلًا، سأتصدق ب 500 ليرة. فتخيلوا كم حنثًا سأحنث فيه إن لم أتصدق، وكم يومًا سيتكرر عليّ، أو قلت مثلًا: والله، كلما تنفست سأدفع كذا خلال نصف ساعة، ولم أدفع، فتخيّلوا كم حنثًا سيكون.
وعقلي لا يستطيع قبول هذا؛ لأنه مخالف لحديث نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأتها، وليكفّر عن يمينه. فإنني إن اتّبعت قولكم، سأكون قد خالفت النبي الكريم؛ لأن مضمون الحديث أن تنهِي هذا اليمين، وتقوم بالذي هو خير، ولا يعقل أن يبقى عليّ يمين، ولا يعقل أن يحمّلني الإسلام ما لا أطيق؛ عملًا بقوله تعالى: "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها".
وإن قلتم لي: في نيته التكرار، فيكون كمن ألزم نفسه كفارات، وهو مثل النذر. أقول لكم: لديكم فتوى -نسيت رقمها- هي نذر لجاج، وفيها تكرار، وقلتم له: تتكرر عليك الكفارة بتكرر الحنث، إلا إذا عجزت عن هذا النذر، كفتك كفارة؛ عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر نذرًا لا يطيقه، فكفارته كفارة يمين"، أيعقل أن يكفّر النذر، واليمين لا يكفّر، والنذر يساوي اليمين، وخصوصا أنه لجاج!؟ وعقلي لا يقبل قول التكرار؛ لأنه يسبّب العنت للمسلم، ويُبعِده عن طريق الصلاح، والتقوى.
فإن كان قولكم صحيحًا ولا بد، فحينها سآخذ بقول الحنابلة بتداخل الكفارات؛ لأن العقل والإسلام لا يقبل المشقة، وهذا ما يقبله العقل، وتقبلوا كلامي، وأجيبوني من فضلكم: هل الحنابلة قالوا بالتكرار في اليمين؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالأصل أنه لا يجب تكرار الكفارة بتكرر الحنث؛ عملًا بالحديث الذي ذكره السائل: من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأتها، وليكفّر عن يمينه.

ولكن ماذا لو نوى الحالف التكرار، وتلفّظ بما يدل عليه، كأن يحلف على أنه كلما حصل كذا ليفعلن كذا.

الظاهر أن هذا يعامل بنيته، ولفظه، فكلما حصل ما حلف عليه، تجدد له يمين وحنث! وراجع في ذلك الفتويين: 136912، 137841.

وأما مذهب الحنابلة في ذلك، فلا نعلم لهم نصًّا عليه في كتاب الأَيْمان، ولكنهم ينصّون في باب الطلاق على أن تعليقه بلفظ: (كلما) يقتضي تكرار الطلاق كلما تكرر الشرط، وفي اقتضاء التكرار بلفظ: (متى) خلاف عندهم، قال ابن قدامة في العمدة: أدوات الشروط ست: إن، وإذا، وأي، ومتى، ومن، وكلما. وليس فيها ما يقتضي التكرار، إلا كلما.

وكلها إذا كانت مثبتة، ثبت حكمها عند وجود شرطها، فإذا قال: إن قمت؛ فأنت طالق. فقامت، طلقت، وانحلّ شرطه. وإن قال: كلما قمت؛ فأنت طالق. طلقت كلما قامت. اهـ.

وقال في الكافي: فإذا قال: إن قمت، أو إذا قمت، أو متى قمت، أو أي وقت قمت، أو من قام منكن، فهي طالق، فقامت، طلقت. وإن تكرر القيام، لم يتكرر الطلاق؛ لأن اللفظ لا يقتضي التكرار. وإن قال: كلما قمت، فأنت طالق، فقامت؛ طلقت. وإن تكرر القيام، تكرر الطلاق؛ لأن اللفظ يقتضي التكرار. وقال أبو بكر: في (متى) ما يقتضي تكرارها؛ لأنها تستعمل للتكرار. اهـ.

ومثل هذا الحكم لا يختلف فيه باب الأيمان عن باب الطلاق، وراجع في ذلك الفتوى: 391042.

وإذا كان الإنسان الطبيعي ذو العقل البسيط، عقله لا يقبل إلزام الشرع للمكلف ما ألزم به نفسه من مقتضى أيمانه، أو من طاعات التزم بها، فلغيره أن يستغرب من إنسان طبيعي أيضًا، أن يلزِم نفسه بكفارة كلما تنفّس، أو كلما خطا خطوة ما.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني