الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الفرق بين تصوّف السلف والخلَف وحكم الانتماء للفرق الضالة دون الإيمان بمعتقداتهم

السؤال

أحد أصحابي -مدافعًا عن التصوف- يقول: إن التصوف يعني الزهد، وإن الصالحين صوفية، وكذلك الصحابة، وحينما يحتدّ النقاش حول الصوفية، يقول تارة: أنت متشدد وهًابي سلفي، وتارة يقول: "كلنا نعبد ربًّا واحدًا، وكل واحد يعبد ربنا بالطريقة التي يريدها، ما دمنا نقول: قال الله، وقال الرسول"، فما جوابكم؟ وهل هناك تصوف سني؟ وما حكم أن يكون الناس فرقًا -صوفي، أشعري، ماتريدي، جهمي، قدري، معتزلي-؟ وما حكم أن ينضم الشخص إلى فرقة حتى وإن كان لا يؤمن بكل عقائدهم؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن الصوفية بالمعنى المتعارف عليه، وبحقيقتها التي انتهجها منتسبوها في عصرنا، أمر حادث، ليس له أصل في الشرع.

وقد مرّ بمراحل متعددة، وانتسب له أناس مختلفو المشارب، وقد كان في وقت من الأوقات يعني عند بعض أهل العلم: الزهد، والورع، والاشتغال بالعبادة، والانقطاع عن الدنيا، إلا إن ذلك لم يدم طويلًا؛ حتى دخل عليه الفكر الفلسفي، فأخرجه عن مجرد السلوك والتعبد إلى طرق مبتدعة من حيث التأصيل والتفريع، لا تلتقي مع منهج اتباع السنة: لا في مصادر التلقي، ولا في طرق الاستدلال!

ولذلك فما يمكن تسميته بالتصوف السني -وإن كان موجودًا في الصدر الأول- إلا إنه يتعسر وجوده الآن بعد الانحراف العقدي والسلوكي الحادث في الطرق الصوفية المتأخرة، وراجع في ذلك الفتاوى: 144199، 149877.

وأما عبارة: (كل واحد يعبد ربنا بالطريقة التي يريدها)، فهي في حقيقتها لا تتفق مع بقية العبارة: (ما دمنا نقول: قال الله، وقال الرسول)، فإن المقصود بخاتمة العبارة لا يتحقق جوهره مع الاختلاف في مصادر التلقي، وطرق الاستدلال على الأحكام الشرعية، فمثلًا: أكثر الصوفية يعتمدون الرؤى المنامية في تلقي الأحكام والأحوال، وهذا لا يتفق مع الاقتصار على الكتاب والسنة، وما استند عليهما في تلقي الأحكام، وقد قال الله عز وجل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {الأنعام:153}.

وعلى أية حال؛ فلا بد من مراعاة نوع الخلاف وأثره، فمن الخلاف ما هو سائغ معتبر، ومنه ما ليس كذلك: فالأول إنما هو اختلاف في الفهم، ولا يصادم نصًّا، ولا إجماعًا سابقًا، بخلاف الثاني، فإنه لا يعتمد على الأدلة الشرعية، وإنما على الهوى والرأي المجرد، أو على دليل غير معتبر.

فإذا كان الخلاف الحاصل بين الناس في طرق العبادة والسلوك من الخلاف السائغ، فلا حرج.

وأما إذا كان من الخلاف غير السائغ، فهنا يجب الفصل بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، بميزان السنة، وفهم سلف الأمة، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الأئمة.

ولا يخفى أن الخلاف بين الفرق التي ذكرها السائل -من الصوفية، والأشعرية، والماتريدية، والجهمية، والقدرية، والمعتزلة- إنما هو خلاف بين حق وباطل في أصوله وكلياته، ويجري عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار. وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة. والذي نفس محمد بيده، لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار. قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: الجماعة. رواه ابن ماجه، وصححه الألباني. وراجع في معنى هذا الحديث الفتويين: 17713، 12682.

وأما السؤال الأخير، فجوابه أنه لا يجوز للمرء أن ينتمي لفرقة ضالّة، وإن كان لا يؤمن بكل عقائدهم، بل الواجب هو ما دلّ عليه قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {الأنعام: 68-69}.

فهؤلاء إنما يخالطون على وجه النصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبيان ما هم عليه من الخطأ، لا على وجه الانتماء والانتساب إليهم، ثم إن من كثَّر سواد قوم، كان له حكمهم، قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): جاء عن ابن مسعود مرفوعًا: "من كثَّر سواد قوم، فهو منهم، ومن رضي عمل قوم، كان شريك من عمل به. أخرجه أبو يعلى، وفيه قصة لابن مسعود. وله شاهد عن أبي ذر في الزهد لابن المبارك غير مرفوع. اهـ.

وقال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: لا ينبغي حضور المنكر والمعاصي، ولا مجالسة أهلها عليها؛ لأن ذلك إظهار للرضا بها، ومن كثر سواد قوم، فهو منهم، ولا يأمن فاعل ذلك حلول سخط الله وعقابه عليهم، وشمول لعنته لجميعهم. اهـ.

وراجع الفتاوى: 95023، 29243، 97693.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني