الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يعذر أهل الفترة في مظالم العباد؟ وما مصيرهم؟

السؤال

هناك من يعد الغرب والأمم التي لم يصلهم الإسلام، ولم تقم عليهم الحجة أهل فترة، ومصيرهم كأهل الفترة، وأهل الفترة فيهم قولان: يمتحنون في الآخرة، أو لا يمتحنون وينجون، ولكل قول أدلة وبراهين من الكتاب والسنة، فهل سينجو أهل الغرب بكل إجرامهم بحق المسلمين إن قالوا يوم القيامة: والله ربنا لم ندرِ ما الإسلام ولم تقم علينا الحجة؟ وأنا أتحدث عن العصور السابقة قبل انتشار الترجمة والتكنولوجيا، فهل سينجون؟ وإن كان الجواب: لا، فهل سيعذبون وهم لم يدركوا الإسلام، أو وصلهم مشوهًا؛ إذ ضل كثير من أهل العربية، فكيف يطلب من الأعاجم الإيمان بما لا يفقهون معناه أصلًا!؟ فأين العدل إن أنجاهم الله بكل إجرامهم؟ وأين العدل إن عذبوا وهم لم يفقهوا الإسلام؟ وإن كان جهلهم بالإسلام منجاة لهم، فلماذا تتم دعوتهم للإسلام؟ وأليس الأفضل تركهم على جهلهم إن كان احتمال نجاتهم مضمونًا؟ نرجو الإجابة عن جميع النقاط المحيرة. جزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فمن لم تبلغه الرسالة، ولم تقم عليه الحجة، إنما يعذر في عدم إيمانه.

وأما مظالم العباد، فتبقى على الأصل؛ فيقضي الله عز وجل فيها، فيأخذ للمظلوم حقه من الظالم، أو يعوض المظلوم عن مظلمته.

وهذا ثابت حتى مع أهل الإيمان والطاعة، فمن أجرم منهم وكان لأحد من الناس عنده مظلمه، لم يَحُل إيمانه بينه وبين صاحب الحق، حتى ولو كان صاحب الحق من أهل النار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: يحشر الله الناس عراة، غرلًا، بهمًا، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، قيل: وكيف، وإنما نأتي الله عراة بهمًا؟ قال: بالحسنات والسيئات. رواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني.

وأما أهل الفترة فالخلاف فيهم شديد ومتشعب، والإشكال الذي أورده السائل إنما يرد على قول من قال: إنهم ناجون مطلقًا، وأن جميعهم في الجنة! وهذا القول ليس بصحيح، ويقابله قول آخر بأنهم جميعًا في النار!

والراجح الذي يوافق الأصول، وتجتمع عليه الأدلة: أنهم يمتحنون يوم القيامة: فمنهم من ينجو، ومنهم من يهلك ويدخل النار -والعياذ بالله-، وهذا ما رجّحه المحققون من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، ونسبه الأشعري لجميع أهل السنة والحديث.

وقال العلامة الشنقيطي في «أضواء البيان»: الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة التي هي: هل يعذر المشركون بالفترة أو لا؟ هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها، فمن اقتحمها دخل الجنة، وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا. ومن امتنع دخل النار وعذب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل.

وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق في هذه المسألة لأمرين:

الأول: أن هذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبوته عنه نصّ في محل النزاع; فلا وجه للنزاع البتة مع ذلك ...

الأمر الثاني: أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول بالعذر والامتحان، فمن دخل النار، فهو الذي لم يمتثل ما أمر به عند ذلك الامتحان، ويتفق بذلك جميع الأدلة، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

وقال ابن القيم في «طريق الهجرتين»: وعلى هذا يكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار. وبهذا يتألف شمل الأدلة كلها. وتتوافق الأحاديث. اهـ.

وبهذا القول الراجح يزول إشكال السائل.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني