الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كون الأمور مقدرة لا يعفي العبد المقصر من اللوم والمسؤولية

السؤال

هل النجاح أو الفشل أشياء مقدرة، لا يغيرها سعي، أو تقاعس؟
اسمح لي أشرح؛ لأني محتاجه إجابة واضحة جدًّا لحالتي. أنا حاليا في الثالث الثانوي عام، ولم أبذل جهدا كافيا في المذاكرة. أكاد أكون لم أبذل جهد أصلا، رغم أن الله مَنَّ علي بسرعة الفهم والذكاء، وأنا كنت طالبة متفوقة، لكن هذا ما حصل. حاليا أنا في فترة امتحانات، طبعا لا أؤدي أداءً جيدا، وأحس بندم شديد جدا جدا، وغير قادرة على أن أمارس حياتي بشكل طبيعي، ولم أجتهد حتى أحصل على المجموع الذي يستحقه أهلي. وكل ما يهمني أني سأكون سبب حزن لأهلي، ولو لم أحصل على مجموع فهذا بسبب تقصيري فقط. فهل هذا صحيح؟
أنا فاهمة أنه لو أن إنسانا تعب، وسعى، ولم ينجح، فهذا يكون قضاء وقدرا، وأنا عارفة كل الكلام عن الأخذ بالأسباب، والرضا بالقضاء، ولكني أتكلم في حالتي، في حالة أني قصرت، فهل فشلي سيكون مثل النجاح بنسبه 100% قضاءً وقدرا؟ أم أنا السبب فيه؟
مع العلم أني لا أريد أن أعرف لأعلق فشلي على شيء، أنا تعلمت الدرس جدا، أنا أريد أن أعرف حتى لو فعلا كان الأمر قدرا بنسبه مئة في المئة مثل النجاح أندم على تقصيري، وأرجع أمارس حياتي مؤمنة أن هذا نصيبي من الحياة، وهذا هو ما كتبه الله لي، مهما عملت.
أعتذر عن طول الرسالة، لكني حقيقة في ضياع، وغير قادرة على التوقف عن التفكير في هذا الأمر.
أرجو إجابة واضحة وصريحة.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا ريب في أن ما حصل لك، بل وكل ما يحصل في هذا الكون، من خير أو شر، من نفع أو ضر، إنما هو بقدر الله القائل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49].

ومن جملة ذلك: تقصيرك الذي تشتكين منه، فهو بقضاء الله تعالى وقدره، كما أن النجاح والفلاح بقضاء الله تعالى وقدره، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس. رواه مسلم.

قال القاضي عياض في إكمال المعلم -وتبعه النووي في شرح مسلم-: العجز هنا يحتمل أن يكون على ظاهره، وهو عدم القدرة. وقيل: هو ترك ما يجب فعله، والتسويف فيه، وتأخيره عن وقته. قيل: ويحتمل أن يريد بذلك عمل الطاعة، ويحتمل أن يريد عموم أمور الدنيا والآخرة. والكيس ضد العجز، وهو النشاط والحذق بالأمور ظاهرة. وإدخال مالك وأهل الصحيح له في كتاب القدر دليل على أن المراد بالقدر هاهنا ما قدره تعالى، وأراده من خلقه، ومعناه أن العاجز قد قدر عجزه، والكيس قد قدر كيسه. اهـ.

ولكن كون التقصير والفشل أمر مُقدَّر، لا يعفي صاحبه من المسئولية، ولا يرفع عنه اللوم والذم، فإن الله تعالى يلوم على العجز، كما روى عوف بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر، فقل حسبي الله ونعم الوكيل. رواه أحمد وأبو داود.

قال التُّورِبِشْتِي في شرح مصابيح السنة: العجز: أصله التأخر عن الشيء، وحصوله عند عجز الأمر، وصار في التعارف اسمًا للقصور عن فعل الشيء، وأريد به هاهنا التأخر عن الأمر بترك التدبير، والتقاعس عن مظان الطلب، والكيس ضد الأحمق. وأريد به هاهنا: التيقظ في الأمر وإثباته من حيث يرجى حصوله، وقد تبين لنا من نسق الكلام أن الرجل كان متكاسلا لم يعط خصمه في الجواب حقه، ثم عرض بقوله: حسبي الله ونعم الوكيل أن صاحبه تعدى عليه فيما ادعاه، فبين له نبي الله -صلى الله عليه وسلم- أنه سلك في ذلك سبيل العجز، فصار ملومًا من قبل الله، حيث ترك ما أقام له من الأسباب، ويسر عليه من المقال، وإنما كان عليه أن يبذل مجهوده في بيان الحق، وكف المتغلب عن العدوان، ثم إن غلبه الأمر، وعز عليه المطلب، فلم يجد إلى الدفع سبيلًا حسن فيه أن يقول: حسبي الله ونعم الوكيل. اهـ.

وقال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: الله تعالى يلوم على العجز، وهو عدم الداعية الجازمة التي يسمى بها مكتسبًا، وإن كانت القدرة لله. اهـ.

وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: روى الوضين بن عطاء عن محفوظ بن علقمة عن ابن عائذ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن التوكل بعد الكيس. وهذا مرسل، ومعناه أن الإنسان يأخذ بالكيس، والسعي في الأسباب المباحة، ويتوكل على الله بعد سعيه. اهـ.

فالعبد مأمور بأن يأخذ بما يقدر عليه من الأسباب، وأن يتوكل على الله تعالى، ويؤمن أن كل شيء بقدر، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ومن قصر في الأخذ بالأسباب المأمور بها، فهو ملوم بلا شك؛ لكونه ترك ما يقدر عليه، وما يصيبه بعد ذلك من مصيبة جراء تقصيره، فهو أمر مقدر ولا شك، ولا تعارض بين كونه مقدرا، وكونه مسؤولا عنه بتقصيره، وتفريطه في الأخذ بالأسباب.

ومن ثَمَّ، فعليه أن يتدارك الفائت، ويتعلم من الدرس، ولا يكرر الخطأ، فعليك إذ وقع ما وقع أن تتجاوزي هذه المرحلة، وأن تستقبلي حياتك بجد واجتهاد، وأن تأخذي بما تقدرين عليه من الأسباب متوكلة على الله تعالى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني