الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل لقوة البدن علاقة بانتصار المسلمين؟

السؤال

هل يصح القول بأن القوة البدنية للمسلمين هي من أسباب ميل كفة النصر لهم على أعدائهم في الغزوات والفتوحات؟
وهل كانوا فعلا أقوى بَدَنِيًّا من أعدائهم آنذاك؟
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا نعلم دليلا على أن المسلمين في الصدر الأول كانوا أقوى أبدانًا من أعدائهم في الجملة، بل يمكن الجزم بأن كفة أسباب القوة المادية الظاهرة عموما، كانت في صالح أعداء المسلمين في الغالب. وإن كنا نعلم أن بعض المسلمين كانوا معروفين بالقوة الشديدة.

وعلى أية حال، فالسبب الحقيقي لانتصار أسلاف المسلمين على أعدائهم، هو إيمانهم الصادق، وعملهم الصالح، واتباعهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم زهدهم في الدنيا، وإيثارهم للآخرة، فتأهلوا بذلك لموعود الله القائل: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 55]، وقال سبحانه: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47].

وأما بالنسبة لخصوص قوة البدن، وعلاقته بانتصار أهل الإيمان، فيحسن أن يذكر فيه قصة طالوت وجالوت، ففيها مثال واضح لهذه القضية. وكذلك النظر لحال المسلمين يوم بدر كما وصفه القرآن: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ [الأنفال: 5، 6]، وتعقيب القرآن على نصرهم في ذلك اليوم بقوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123].

قال الماوردي في النكت والعيون: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} فيه قولان، أحدهما: الضعف عن مقاومة العدو. والثاني: قلة العدد وضعف الحال. اهـ.

وقد قال البخاري في صحيحه: باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب. وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان، قال لي قيصر: سألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فزعمت ضعفاءهم، وهم أتباع الرسل. اهـ.

ثم أسند فيه عن مصعب بن سعد، قال: رأى سعد -رضي الله عنه-، أن له فضلا على من دونه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم.

قال ابن عاشور في (النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح): المراد بالضعفاء المتصفون بالضعف، وهو ضد القوة التي هي في الأصل المقدرة البدنية، قال الله تعالى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً}. اهـ.

وقال المناوي في فيض القدير: (تنصرون) تعانون على عدوكم ويدفع عنكم البلاء ... (بضعفائكم) بسبب كونهم بين أظهركم أو بسبب رعايتكم ذمامهم أو ببركة دعائهم، والضعيف إذا رأى عجزه وعدم قوته تبرأ عن الحول والقوة بإخلاص، واستعان بالله، فكانت له الغلبة {وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} بخلاف القوي فإنه يظن أنه إنما يغلب الرجال بقوته فتعجبه نفسه غالبا وذلك سبب للخذلان، كما أخبر الله تعالى عن بعض من شهد وقعة حنين ... وفي طيه إعلام بإسقاط كلمة النصر بالأسباب والعدة والعدد والآلات المتعبة الشاقة والاستغناء بتعلق القلوب بالله تعالى، فنصرة هذه الأمة إنما هي بضعفائها لا بمدافعة الأجسام، فلذلك افتتح المصطفى المدينة بالقرآن، ويفتح خاتمة هذه الأمة القسطنطينية بالتسبيح والتكبير. قال بعض العارفين: ومن حكمته تعالى أنه أمر بالعدة للعدو وأخذه بالقوة، وأخبر أن النصر بعد ذلك يكون بالضعفاء ليعلم الخلق فيما أمروا به من الاستعداد وأخذ الحذر أن يرجعوا للحقيقة ويعلموا أن النصر من عند الله يلقيه على يد الأضعف، فالاستعداد للعادة والعلم بجهة النصر في الضعيف للتوحيد وأن الأمر كله لله عادة وحقيقة يدبره كيف شاء. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني