الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإشراف على بناء الألعاب المائية

السؤال

ما حكم المساهمة في بناء ملاهٍ أطفال؟ مع العلم أن هذه الملاهي تحتوي على محرمات - كالقمار، والموسيقى، والغناء المحرم، والتبرّج، والسفور-، لكن عملي ليس له علاقة بذلك، فأنا أشرف على بناء الألعاب -مثل القطارات، والأماكن المائية-، وفي إحدى فتاويكم قلتم بحرمة بناء المسابح، وغيرها، وقلتم: إنه تعاون على الإثم والعدوان، وقرأت عن أقسام الإثم، وأن منه ما هو مباشر -مثل حمل خمر- وأنه لا خلاف في الحرمة، ومنه غير مباشر -مثل بيع عنب لمن يتخذه خمرًا، وهذا فيه خلاف-. وأيضا (عجافا)؟؟ كانت قطعية، أو ظنية، أو غيرها، وهنا فيه خلاف، والأخير ليس له علاقة، وهذا لا خلاف فيه من حيث الحل.
وعملي ليس له علاقة، وهكذا الألعاب المائية ستستخدم في الحلال، وهي السباحة، ولكن سيكون هناك عري، وهذا ليس له علاقة؛ فالمقصود السباحة؛ فقد أجاز أهل العلم إجارة بيت لكافر، حتى لو استخدمه في المحرمات؛ لأنها بالأصل للمبيت.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فأما من حيث الخلاف؛ فقد وقع حتى فيما ذكر السائل أنه لا خلاف فيه! فكما وقع الخلاف في بيع العنب لمن يتخذه خمرًا، وقع أيضًا في الاستئجار على حمل الخمر لمن يشربه؛ فعند الإمام أبي حنيفة تحلّ له الأجرة، وذكر الكاساني في بدائع الصنائع وجه قول أبي حنيفة، فقال: إن نفس الحمل ليس بمعصية؛ بدليل أن حملها للإراقة والتخليل مباح، وكذا ليس بسبب للمعصية، وهو الشرب؛ لأن ذلك يحصل بفعل فاعل مختار، وليس الحمل من ضرورات الشرب؛ فكانت سببًا محضًا؛ فلا حكم له، كعصر العنب، وقطفه. اهـ.

وذكر الجصاص في (شرح مختصر الطحاوي) وجه قول أبي حنيفة في بيع عصير العنب ممن يجعله ‌خمرًا، فقال: لأن العصير مباح جائز التصرف فيه، وإنما ‌المأثم على من يتخذه ‌خمرًا لشربها، فأما البائع فلا شيء عليه في ذلك، كبيع الحرير، والحلي من الرجال، فهو جائز مباح، وإن لم يأمن أن يلبسه الرجل، أو يستعمله فيما لا يجوز. اهـ.

بل قد وقع الخلاف فيما هو أكبر من ذلك، فعند أبي حنيفة أنه لا بأس على من‌‌ أجَّر بيتًا ليتخذ فيه بيت نار، أو كنيسة، أو بيعة، أو يباع فيه الخمر، قال العيني في شرح الهداية: لأن الإجارة ترد على منفعة البيت؛ ولهذا تجب الأجرة بمجرد التسليم، ولا معصية فيه، وإنما المعصية بفعل المستأجر، وهو مختار فيه؛ فقطع نسبته عنه. اهـ.

وقال النسفي في كنز الدقائق: جاز بيع العصير من خمّار، وإجارة بيت ليتخذه بيت نار، أو بيعة، أو كنيسة، أو يباع فيه خمر بالسواد، وحمل خمر لذمي بأجر. اهـ.

وكذلك الخلاف في بيع الغلام الأمرد ممن يفحش به، أو جارية لمن لا يستبرئها، أو يأتيها في غير محل الحرث، وغير ذلك من المسائل.

ونحن لا ننكر وقوع هذا الخلاف! ولكن الترجيح والاختيار أمر آخر، فصاحبا الإمام أبي حنيفة -محمد بن الحسن، وأبو يوسف- فضلًا عن الأئمة الثلاثة الآخرين، قد خالفوه في ذلك. ومذهب الجمهور أرجح تأصيلًا، وتفريعًا، وتدليلًا، وتعليلًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات، والعادات، كما هي معتبرة في التقربات، والعبادات، فيجعل الشيء حلالًا، أو حرامًا، أو صحيحًا، أو فاسدًا، أو صحيحًا من وجه، فاسدًا من وجه، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة، أو مستحبة، أو محرمة، أو صحيحة، أو فاسدة.

ودلائل هذه القاعدة كثيرة جدًّا، فذكر بعضها، ومنها: عاصر الخمر ومعتصرها، وقال: وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عاصر الخمر، ومعتصرها، ومعلوم أنه إنما يعصر عنبًا؛ فيصير عصيرًا، ثم بعد ذلك قد يخمر، وقد لا يخمر، ولكن لما قصد بالاعتصار تصييره خمرًا؛ استحق اللعنة؛ وذلك إنما يكون على فعل محرم؛ فثبت أن عصير العنب لمن يتخذه خمرًا محرم؛ فتكون الإجارة عليه باطلة، والأجرة محرمة ... ثم في معنى هؤلاء كل بيع، أو إجارة، أو هبة، أو إعارة تعين على معصية، إذا ظهر القصد ... ومعلوم أن هذا إنما استحق اللعنة، وصارت إجارته وبيعه باطلًا، إذا ظهر له أن المشتري، أو المستأجر يريد التوسل بماله ونفعه إلى الحرام؛ فيدخل في قوله -سبحانه وتعالى-: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}. ومن لم يراعِ المقاصد في العقود يلزمه أن لا يلعن العاصر، وأن يجوز له أن يعصر العنب لكل أحد، وإن ظهر له أن قصده التخمير؛ لجواز تبدل القصد، ولعدم تأثير القصد عنده في العقود، وقد صرّحوا بذلك، وهذا مخالف بنيته لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.

وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: قال الإمام أحمد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة. ولا ريب أن هذا سد لذريعة الإعانة على المعصية، ويلزم من لم يسد الذرائع أن يجوز هذا البيع، كما صرحوا به، ومن المعلوم أن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم، والعدوان، وفي معنى هذا كل بيع، أو إجارة، أو معاوضة تعين على معصية الله، كبيع السلاح للكفار، والبغاة، وقطاع الطريق، وبيع الرقيق لمن يفسق به، أو يؤاجره لذلك، أو إجارة داره، أو حانوته، أو خانه لمن يقيم فيها سوق المعصية، وبيع الشمع، أو إجارته لمن يعصي الله عليه، ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يبغضه الله ويسخطه، ومن هذا عصر العنب لمن يتخذه خمرًا، وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو، والمعتصر مًعا، ويلزم من لم يسد الذرائع أن لا يلعن العاصر، وأن يجوز له أن يعصر العنب لكل أحد، ويقول: القصد غير معتبر في العقد، والذرائع غير معتبرة، ونحن مطالبون في الظواهر، والله يتولى السرائر، وقد صرّحوا بهذا، ولا ريب في التنافي بين هذا وبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.

وقال المازري في المعلم بفوائد مسلم: ما فيه منفعة مقصودة؛ فلا يخلو من ثلاثة أقسام:

أحدها: أن تكون سائر منافعه محرمة.

والثاني: أن تكون سائر منافعه محللّة.

والثالث: أن يكون بعضها محللًا، وبعضها محرمًا.

فإن كانت سائر منافعه محرمة؛ صار هو القسم الأول الذي لا منفعة فيه؛ كالخمر، والميتة.

وإن كانت سائر منافعه محللة؛ جاز بيعه إجماعًا؛ كالثوب، والعبد، والعقار، والثمار، وغير ذلك من ضروب الأموال.

وإن كانت منافعه مختلفة؛ فهذه المواضع المشكلات في الأفهام، ومزلَّة الأقدام، وفيه ترى العلماء يضطربون، وأنا أكشف لك عن سره -إن شاء الله-؛ ليهون عليك اختلافهم فيه.

فاعلم أنه تقدم لك أصلان: جواز البيع عند تحليل سائر المنافع، وتحريمه عند تحريم جميعها، فإذا اختلف عليك؛ فانظر: فإن كان جلّ المنافع والمقصود منها محرمًا؛ حتى صار المحلَّل من المنافع كالمطَّرح؛ فإن البيع ممنوع، وواضح إلحاق هذا بأحد الأصلين المتفق عليهما؛ لأن المطَّرح من المنافع كالعدم، وَإذا كان كالعدم صار كأن الجميع محرّم.

وإن كان الأمر بعكس ذلك؛ كان الحكم بعكسه، وهو أن يكون المقصود من المنافع وجلّها مباحًا، والمحرم مطَّرحًا في المقصود؛ فواضح إلحاق هذا بالأصل الثاني، وهو ما حَلَّ سائر منافعه.

وأشكل من هذا القسم أن تكون فيه منفعة محرّمة مقصودة مرادة، وسائر منافعه سِواها محلل مقصود؛ فَإِنّ هذا ينبغي أن يلحق بالقسم الممنوع؛ لأن كون هذه المنفعة المحرمة مقصودة، تؤذن بأن لها حصة من الثمن، وأن العقد اشتمل عليها، كما اشتمل على سائر المنافع سِوَاهَا، وهو عقد واحد على شيء واحد، لا سبيل إلى تبعيضه، والتعاوض على المحرم منه ممنوع؛ فمُنِع الكُلُّ لاستحالة التمييز، وأنَّ الباقي من المنافع المباحة، يصير ثمنه مجهولًا لو قدر جواز انفراده بالتعاوض.

وربما وقع في هذا النوع مسائل تُشكل على العالِمِ؛ فيلحظ المسألة بعين فكرته، فيرى المنفعة المحرّمة ملتبسًا أمرها هل هي مقصودة أم لا؟ ويرى ما سواها منافع مقصودة محللة؛ فيمتنع من التحريم لأجل كون المقصود من المنافع محلّلًا، ولا ينشَد لإِطلاق الإِباحة لأجل الإِشكال في تلك المنفعة المحرّمة هل هي مقصود أم لا؟ فيقف ها هنا المتورّع، ويتساهل آخر؛ فيقول بالكراهة، ولا يمنع، ولا يحرم، ولكنه يكره لأجل الالتباس. فاحتفظْ بهذا الأصل؛ فإنه من مُذْهَبَات العلم، ومن قتله علمًا؛ هان عليه جميع مسائل الخلاف الواردة في هذا الباب، وأفْتَى وهو على بصيرة في دِين الله تعالى. اهـ.

وذكر الشاطبي في (الموافقات) اختيار المازري إلحاق هذا القسم بالممنوع، وتعليله بأن كون المنفعة المحرمة مقصودة يقتضي أن لها حصة من الثمن، وقال: وهو متوجه. وأيضًا؛ فقاعدة الذرائع تقوى ها هنا؛ إذا قد ثبت القصد إلى الممنوع. وأيضًا فقاعدة: "معارضة درء المفاسد لجلب المصالح" جارية هنا؛ لأن درء المفاسد مقدّم، ولأن قاعدة التعاون تقضي بأن المعاملة على مثل هذا تعاون على الإثم، والعدوان؛ ولذلك يمنع باتفاق شراء العنب للخمر قصدًا، وشراء السلاح لقطع الطريق، وشراء الغلام للفجور، وأشباه ذلك، وإن كان ذلك القصد تبعيًّا؛ فهذا أولى أن يكون متفقًا على الحكم بالمنع فيه؛ لكونه من باب سد الذرائع، وإنما وقع النظر الخلافي في هذا الباب بالنسبة إلى مقطع الحكم، وكون المعاوضة فاسدة أو غير فاسدة. اهـ.

وعلَّق الشيخ الدكتور عبد الله دراز على قوله: "وقع النظر الخلافي .."، فقال: جواب سؤال تقديره: أنه كان مقتضى هذه القواعد الأصولية أن يتفقوا على منع هذا الضرب، مع أنهم اختلفوا فيه، فقال: بل هم متفقون على المنع والحرمة، والخلاف إنما هو في فساد المعاوضة وصحتها، ومعلوم أنه لا يلزم من القول بالحرمة القول بالفساد، والشافعية، والمالكية يقولون: إن لم يدل دليل على الصحة؛ كان فاسدًا، سواء أكان الدليل متصلًا أو منفصلًا، وعند الحنفية خلاف فيه بالنسبة لبعض صوره. اهـ.

وهذا أمر مهم؛ فقد يُحكم بصحة المعاملة، وحِلِّ الأجرة، ولكن يأثم الفاعل من جهة أخرى، وهي الإعانة على الإثم.

والبحث في هذا الشأن يطول، وقد جرَّنا السائل بما ذكره من فروع في سؤاله إلى ذكر ما تقدم.

وأما بخصوص ما سأل عنه من حكم الإشراف على بناء الألعاب المائية التي تستخدم في السباحة، مع ما سيكون فيها من العري! فالذي يظهر لنا رجحانه في ذلك: أن العبرة بما يغلب على ظن السائل في كيفية استعمال هذه الألعاب، بحسب حال البلد والبيئة التي تبنى فيها، فإن غلب على ظنه أن غالب استعمالها سيكون على هيئة مباحة؛ فلا يحرم العمل فيها، وأما إن غلب عليها المنكرات والاستعمال على هيئة محرمة؛ فلا يعمل بها، وراجع في ذلك الفتوى: 437356.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني