الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تفسير قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ.. وقوله: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ..

السؤال

أرجو أن تفسروا لي الآيتين: 24-25 من سورة التوبة.
وما حكم حب الآباء والأموال وغيرها، أكثر من الله ورسوله، والجهاد في سبيل الله. وهل يعتبر ذلك ردة، وخصوصا الجهاد في سبيل الله؟
وهل المقصود هو القتال فقط؟
جزاكم الله خيرا، وسدد خطاكم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الآية: 24 من سورة التوبة، هي قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {التوبة:24}.

هذه الآية الكريمة جاءت تعقيبا على النهي عن موالاة الكفار، وفي سياقه؛ فبعد أن نهى الله -تعالى- المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء، وإِطْلاعِهم على أسرار المؤمنين، في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {التوبة:23}.

جاء الأمر فيها من الله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للمقيمين في دار الكفر، المتخلفين عن الهجرة إلى دار الإسلام - أن يقول لهم- إنْ كان مقامكم مع آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشائركم، وفي أموالكم ومساكنكم وتجارتكم. أحب إليكم وأغلى عندكم من الله ورسوله، والهجرة إلى دار الإسلام، والجهاد في سبيله، فانتظروا ما سيحل بكم من العقاب؛ فإن الله -تعالى- لا يوفق للخير الفاسقين الخارجين عن طاعته.

فهذا خلاصة ما قاله أهل التفسير فيها.

جاء في تفسير الجلالين: قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانكُمْ وَأَزْوَاجكُمْ وَعَشِيرَتكُمْ} أَقْرِبَاؤُكُمْ، وَفِي قِرَاءَة عَشِيرَاتكُمْ {وَأَمْوَال اقْتَرَفْتُمُوهَا} اكتسبتموها {وتجارة تخشون كسادها} عدم نفاذها {وَمَسَاكِن تَرْضَوْنَهَا أَحَبّ إلَيْكُمْ مِنْ اللَّه وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبِيله} فَقَعَدْتُمْ لِأَجْلِهِ عَنْ الْهِجْرَة وَالْجِهَاد {فَتَرَبَّصُوا} انْتَظِرُوا {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّه بِأَمْرِهِ} تهديد لهم {والله لا يهدي القوم الفاسقين}. انتهى.

وجاء في التفسير المنير لوهبة الزحيلي: أمر -تعالى- رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله ورسوله وجهاد في سبيله، مُصدِّرا ذلك بكلمة "إِن" المفيدة للشك؛ لأن حب الكافرين مشكوك فيه من المؤمنين.

والمقصود هو تفضيل حبهم على حب الله. أما أصل الحب فهو أمر فطري طبيعي لا لوم عليه، ولا مؤاخذة فيه؛ لأن التكليف يتوجه على الأمور المقدورة للإنسان، لا على الأمور الجبلية الفطرية كالحب والبغض.
فقال له: قل: إن كنتم تؤثرون هذه الأشياء الثمانية، وتفضلون الآباء، والأبناء، والإخوان، والأزواج، والعشيرة (القرابة القريبة) والأموال، والتجارة، والمساكن، على حب الله ورسوله، أي طاعتهما، والجهاد في سبيله الذي يحقق السعادة الأبدية في الآخرة. فانتظروا حتى يأتي الله بعقابه العاجل أو الآجل. انتهى.
- أما من آثر ـ عن قصدٍ ـ محبة الآباء، والأموال، وما ذُكر معها على محبة الله -تعالى- ورسوله، والجهاد في سبيله، فليس مرتدّا عن الإسلام، لكنه على خطر عظيم، فقد تناله عقوبة الله -تعالى- عاجلا، أو آجلا.

أما إذا كانت تلك المحبة جبلّية أي: غير مقصودة، فلا مؤاخذة فيها.

جاء في روح البيان (تفسير القرآن): والمراد الحب الاختياري، المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وعدم المفارقة، لا الحب الجبلي الذي لا يخلو عنه البشر، فإنه غير داخل تحت التكليف الدائر على الطاقة. فَتَرَبَّصُوا أي انتظروا، جواب للشرط. حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ هي عقوبة عاجلة أو آجلة، وهو وعيد لمن آثر حظوظ نفسه على مصلحة دينه.

وفي الآية الكريمة وعيد شديد لا يتخلص منه إلا أقل قليل، فإنك لو تتبعت إخوان زماننا من الزهاد الورعين لوجدتهم يتحيرون ويتحزنون بفوات أحقر شيء من الأمور الدنيوية، ولا يبالون بفوات أجلّ حظ من الحظوظ الدينية.

فإن محصول الآية أن من آثر هذه المشتهيات الدنيوية على طاعة الرحمن، فليستعد لنزول عقوبة آجلة أو عاجلة، ولينظر أن ما آثره من الحظوظ العاجلة هل يخلص من الأهوال والدواهي النازلة. اللهم عفوك وغفرانك يا أرحم الراحمين. اهـ.

وليس المقصود بالجهاد الوارد في هذه الآية مجرد القتال، فقط.

قال الألوسي في روح المعاني: وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ. أي: طريق ثوابه ورضاه -سبحانه-، ولعل المراد به هنا أيضا الإخلاص ونحوه لا الجهاد، وإن أطلق عليه أيضا أنه سبيل الله تعالى.

ونظمُ حب هذا في سلك حب الله ـ تعالى شأنه ـ وحب رسوله -عليه الصلاة والسلام- تنويها بشأنه، وتنبيها على أنه مما يجب أن يحب فضلا عن أن يكره. وإيذانا بأن محبته راجعة إلى محبة الله -عزّ وجلّ- ومحبة حبيبه -صلّى الله عليه وسلّم- فإن الجهاد عبارة عن قتال أعدائهما لأجل عداوتهم، فمن يحبهما يجب أن يحب قتال من لا يحبهما. اهـ.

وراجع للمزيد عن أنواع الجهاد، الفتوى: 54245

أما الآية: 25 من سورة التوبة، فهي قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ {التوبة:25}.

يقول الشيخ السعدي في تفسيره، تعليقا على هذه الآية: يمتن -تعالى- على عباده المؤمنين، بنصره إياهم في مواطن كثيرة من مواطن اللقاء، ومواضع الحروب والهيجاء، حتى في يوم "حنين" الذي اشتدت عليهم فيه الأزمة، ورأوا من التخاذل والفرار، ما ضاقت عليهم به الأرض على رحبها وسعتها.
وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما فتح مكة، سمع أن هوازن اجتمعوا لحربه، فسار إليهم -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه الذين فتحوا مكة، وممن أسلم من الطلقاء أهل مكة، فكانوا اثني عشر ألفا، والمشركون أربعة آلاف، فأعجب بعض المسلمين بكثرتهم، وقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة.

فلما التقوا هم وهوازن، حملوا على المسلمين حملة واحدة، فانهزموا لا يلوي أحد على أحد، ولم يبق مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا نحو مائة رجل، ثبتوا معه، وجعلوا يقاتلون المشركين، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم، يركض بغلته نحو المشركين، ويقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"
ولما رأى من المسلمين ما رأى، أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي في الأنصار وبقية المسلمين -وكان رفيع الصوت- فناداهم: يا أصحاب السمرة، يا أهل سورة البقرة.
فلما سمعوا صوته، عطفوا عطفة رجل واحد، فاجتلدوا مع المشركين، فهزم الله المشركين، هزيمة شنيعة، واستولوا على معسكرهم ونسائهم وأموالهم.
وذلك قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} وهو اسم للمكان الذي كانت فيه الوقعة بين مكة والطائف.

{إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} أي: لم تفدكم شيئا، قليلا ولا كثيرا {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ} بما أصابكم من الهم والغم حين انهزمتم {بِمَا رَحُبَتْ} أي: على رحبها وسعتها، {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} أي: منهزمين. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني