الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تخصيص الأب لولده البار به في الهبة.. رؤية شرعية واقعية

السؤال

أنا ابن بار بوالدي، وقد أخذته إلى منزلي ليعيش معي، وأقوم بخدمته ورعايته بالكامل. لدي إخوة وأخوات، لكنهم غير بارين به ولا يزورونه إلا مرة كل عامين تقريبًا. والدي، -ولله الحمد- يشكرني، ويثني على برّي ورعايتي له، وكذلك على أولادي، أمام الجميع.
وقد ساعدني والدي سابقًا بمبالغ مالية في عدة مناسبات، والآن أخبرني أنه يرغب في بيع جميع أملاكه ومنح المبالغ لي ولأولادي البارين به، لمساعدتي في إكمال بناء الفيلا وتأثيثها. وهو يجبرني ويطالبني دوما بأن أبيع العقار لتوزيع المبلغ عليّ وعلى أولادي.
فهل يجوز شرعًا أن يقوم والدي ببيع كل أملاكه لتوزيع المبالغ على الأبناء البارين به، أم إنه من الأفضل أن يبيع عقارًا واحدًا فقط، مع مراعاة حقوق الإخوة الآخرين، خصوصًا مع الأخذ في الاعتبار المساعدات المالية السابقة التي قدمها لي؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فتخصيص بعض الأبناء بالهبة دون بقيتهم إن كان لمعنى فيهم -كالفقر، أو الحاجة، أو المرض- فلا حرج في ذلك.

وأما إن كان على سبيل الأثرة دون مسوغ شرعي، فهذا مكروه عند جمهور الفقهاء، ومحرم عند الحنابلة. وذهب بعضهم إلى بطلان هذه الهبة، والحكم بردها إلى التركة بعد موت الواهب. وراجع في ذلك الفتاوى: 123771، 107734، 122839.

وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى»: عن رجل أعطى بعض أولاده شيئًا، ولم يعط الآخر؛ لكون الأول طائعًا له: فهل له بر من أطاعه، وحرمان من عصاه؟

فأجاب: على الرجل أن يعدل بين أولاده كما أمر الله ورسوله، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبشير بن سعد لما نحل ابنه النعمان نحلاً، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على ذلك، فقال له: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" وقال: "لا تشهدني على هذا، فإني لا أشهد على جور"، وقال له: "اردده" فرده بشير ... لكن إذا خص أحدهما بسبب شرعي: مثل أن يكون محتاجًا مطيعًا لله، والآخر غني عاص يستعين بالمال على المعصية، فإذا أعطى من أمر الله بإعطائه، ومنع من أمر الله بمنعه، فقد أحسن. اهـ.

وظاهر هذه الفتوى: عدم اعتبار مجرد بر الابن وطاعته لوالده، وإنما المعتبر حاجة الابن وطاعته لله. اللهم إلا أن يقال: إن البر من جملة طاعة الله تعالى، فيُخَصُّ البارُّ، ويُحْرَمُ العاقُّ. وقد نص بعض أهل العلم على هذا، واستثنوا حرمان العاق من الكراهة، كما يستثنى الفاسق.

قال ابن حجر الهيتمي في «تحفة المحتاج»: لم يُكْرَهْ التفضيل كما لو حرم فاسقًا، لئلا يصرفه في معصية، أو عاقًا، أو زاد، أو آثر الأحوج، أو المتميز بنحو فضل، كما فعله الصِّدِّيقُ مع عائشة -رضي الله تعالى عنهما-. اهـ.

وقال الخطيب الشربيني في «مغني المحتاج»: محل الكراهة عند الاستواء في الحاجة أو عدمها، وإلا فلا كراهة ... ويستثنى ‌العاق ‌والفاسق إذا علم أنه يصرفه في ‌المعاصي، فلا يكره حرمانه. اهـ.

وقريب من ذلك أنهم كرهوا رجوع الوالد في هبته لولده، واستثنوا من ذلك إذا كان الولد عاقًا، فلا يكره للوالد الرجوع في هبته إياه.

قال النووي في «روضة الطالبين»: وكذا لو كان ولدًا واحدًا، فوهب له، كره الرجوع إن ‌كان ‌الولد ‌عفيفًا ‌بارًا، فإن كان عاقًا، أو يستعين بما أعطاه في معصية، فلينذره بالرجوع. فإن أصرّ، لم يكره الرجوع. اهـ.

والذي يظهر لنا أن العقوق من جملة الفسق، فإن أصرّ الولد عليه -بعد نصحه وإنذاره- جاز التفضيل عليه، وحرمانه من الهبة، كما يُحرَم الفاسق.

قال شيخ الإسلام في «الفتاوى الكبرى»: لو كان أحد الأولاد فاسقًا فقال والده: لا ‌أعطيك ‌نظير ‌إخوتك ‌حتى ‌تتوب. فهذا حسن يتعين استثناؤه، وإذا امتنع من التوبة فهو الظالم، فإن تاب، وجب عليه أن يعطيه. اهـ.

وعلى ذلك؛ فلا حرج على الوالد في تخصيص ابنه البار بهبة ناجزة في حياته، وتفضيله على إخوته العاقّين.

وأما تخصيص الأبر، وحرمان المقصر في البر مع كونه ليس عاقًا، فيبقى على أصل الأمر بالعدل بين الأولاد.

وقول السائل في وصف إخوته: (غير بارين به، ولا يزورونه إلا مرة كل عامين) يحتمل أنهم مقصرون في البر، ويحتمل وقوعهم في العقوق، ولا نستطيع الجزم بحالهم.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني