الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إعادة النظر في دية المرأة هو من قبيل الترف الفكري ليس إلا

السؤال

أنا طالبة بقسم الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، وفي خلال بحثي تطرقت لموضوع "دية المرأة في النفس وما دونها"، وما للمرأة المسلمة من حقوق مالية مرتبطة بأحكامها، فوجدت أن معظم الفقهاء اعتمدوا على حديث وحيد في الباب هو لمعاذ بن جبل، والذي جاء فيه أن: "دية المرأة على النصف من دية الرجل"، فاتفقوا على تنصيف دية المرأة في النفس، ثم اختلفوا في دية جراحات المرأة:فذهب بعضهم إلى أنها تساوي دية جراحات الرجل ما لم تبلغ الثلث ، فإذا بلغته رجعت إلى النصف، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة وبه أخذ الجمهور. وذهب آخرون إلى أن دية جراحات المرأة هي على النصف من دية جراحات الرجل في ما قل وكثر، وبهذا قال الإمام علي كرم الله وجهه، وبه أخذ الشافعية والحنفية والهادوية.لكنني لم أقف على هذا الحديث في كتب الحديث الصحيحة، ويشير الإمام الشوكاني (نيل الأوطار7/225) إلى أن البيهقي قال فيه: "إسناده لا يثبت مثله"، كما أخرج البيهقي عن علي كرم الله وجهه مثله موقوفا، وهو من رواية إبراهيم النخغي عنه، وفيه انقطاع.وأشار بعضهم إلى أن هذا الحكم مستفاد من كتاب عمرو بن حزم الذي بعث به الرسول عليه الصلاة والسلام إلى اليمن، وفيه الفرائض والسنن والديات، لكن ما جاء فيه حسب كتب الحديث هو أن الرجل يقتل بالمرأة، وليس فيه ذكر لتنصيف دية المرأة. كما تكلم المحدثون في سند الحديث فمنهم من ضعفه كأبي داود ، ومنهم من صححه كابن حبان. هذا من حيث السنة، أما من حيث القرآن، فلم أجد دليلا يفيد هذا الحكم أو يشير إليه أو يزكيه، والآية الكريمة التي وردت في هذا الشأن هي عامة تنطبق على كل نفس مؤمنة، حيث يقول تبارك وتعالى: "ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله"(النساء 4/92)، فلم يميز سبحانه وتعالى بين دية نفس ذكر ودية نفس أنثى، مع أنه سبحانه وتعالى حرص على تأكيد ما يختلفان فيه من أحكام عندما تترتب عليها آثار واختلافات أخرى، كما هو الشأن في أحكام بعض العبادات، وأحكام الزواج والميراث.وإذا اعتبرنا الآية مجملة، ومن وظائف السنة تفصيل مجمل القرآن، وتخصيص عامه وتقييد مطلقه، فإن هذه السنة ينبغي أولا أن تكون صحيحة ثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام.وينبغي ثانيا أن لا يكون حكمها معارضا لروح التشريع وحكمته، أو مصادما لأسسه ومقوماته، ذلك أن الخطاب القرآني عام موجه للرجال والنساء على السواء، والتكليف منوط بالمرأة كما هو منوط بالرجل، كما أنهما مرتبطان بوحدة المآل من جزاء أو عقاب، ولا تمييز بين حكم الرجل والمرأة في العبادات والمعاملات إلا في القليل النادر، مما له علاقة بطبيعة كل منهما، وتكوينه الفزيولوجي والنفسي، وحينها يأتي الخطاب القرآني موضحا هذا الاختلاف مبينا حكمه. أما ما ورد عاما فيبقى على عمومه حتى يثبت دليل التخصيص، كما يؤكد ذلك الأصوليون.فهل الحكم بتنصيف دية المرأة سواء في النفس أو فيما دونها هو حكم شرعي ثابت بنص القرآن والسنة بحيث لا يقبل نقاشا أو اجتهادا؟ أم هو مجرد رأي فقهي أو اجتهاد متأخر اعتمد قولة أو حديثا غير قوي، لكن اتفق عليه الصحابة – إن ثبت فعلا اتفاقهم على هذا الأمر- مشهور بين الناس وتداولته الألسن، ثم استنبطوا منه أحكاما أخرى كتنصيف دية جراحات المرأة قياسا على تنصيف دية نفسها.فأي فرق بين تكريم الله سبحانه وتعالى لنفس الرجل وتكريمه لنفس المرأة؟ وأي فرق بين ألم جراحات الرجل وألم جراحات المرأة؟ أوليس العقاب الأخروي للمرأة والرجل لا يتنصف؟ فكيف ينصف العقاب الدنيوي؟وهل يقبل عقل اليوم اعتبار نفس المرأة، التي خلقت هي ونفس الرجل من أصل واحد لقوله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها"، هل يقبل العقل أن التعويض عن نفس أو جراحات المرأة لا يكون إلا نصف ما يقدم تعويضا عن نفس وجراحات الرجل؟أرجو أن يتسع صدركم لسؤالي، وأن تعتبروني كما قال عن نفسه ربيعة بن أبي عبد الرحمن لسعيد بن المسيب، حين استنكره سؤاله في شأن تنصيف دية جراحات المرأة إذا بلغت ثلث دية الرجل، حيث اعتبر نفسه: جاهلا متعلما أو عالما متثبتا، ولعلي أكون بالصفة الأولى ألحق وأقرب مني من الصفة الثانية. علما أنني لا يسعني إذا ثبت النص إلا التسليم له والانقياد لحكمه طاعة ويقينا، أما إذا لم يثبت النص فكيف أسد منافذ صوت العقل الذي يلح علي في عدم قبول أي أمر إلا إذا اقتنعت بصحة دليله وثبوت حكمة مشروعيته.كما ألتمس منكم أن يكون جوابكم غير مقتصر على ما ورد في كتب المحدثين والفقهاء من أقوال، فقد استطعت الاطلاع على بعض منها مما يوضح لي تصورهم للموضوع، ولكن الذي أصبو إليه عبر منبركم هذا هو جواب مطعم بآراء مختلف العلماء المعاصرين، مبنيا على اجتهاداتهم التي تأخذ بعين الاعتبار متغيرات الواقع، فلم تعد العاقلة اليوم هي من تدفع دية القتيل، وإنما شركات التأمين وغيرها من المؤسسات التي تختص بمثل هذه الملفات، فهل تعطي هذه المؤسسات في دية نفس المرأة نصف ما تعطيه في دية نفس الرجل؟أرجو أن تأخذوا بيد طلبة العلم إلى بر الحقيقة وشاطئ الإيمان، ولكم جزيل الأجر وعظيم الثواب.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فنشكرك على هذا الحرص على تمحيص الأحكام والتدقيق فيها بغية الخروج بالصواب، وفيما سألت عنه نقول لك: إن كون دية المرأة على النصف من دية الرجل أمر مجمع عليه، وقد نقل هذا الإجماع جم كبير من أهل العلم.

قال ابن قدامة في المغني: قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل.

وقال الشافعي في الأم: لم أعلم مخالفاً من أهل العلم قديماً ولا حديثاً في أن دية المرأة نصف دية الرجل وذلك خمسون من الإبل...

وفي الموسوعة الفقهية: ذهب الفقهاء إلى أن دية الأنثى الحرة المسلمة هي نصف دية الذكر الحر المسلم، هكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، قال ابن المنذر وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل.

وإذ ثبت هذا الإجماع فهو كاف لإثبات الحكم، لأن الإجماع هو الأصل الثالث للتشريع، وقد ثبتت حجية الإجماع بأدلة كثيرة منها قوله تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا {النساء:115}.

وروى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة.

وفي حديث رواه الترمذي وغيره، قال صلى الله عليه وسلم: لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة.

وروى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم. وورد في هذا الموضوع آثار كثيرة.

ورغم أن طائفة من أهل العلم تكلموا في سند بعض هذه الأدلة أو مدى دلالتها على حجية الإجماع، فإن دية المرأة وكونها على النصف من دية الرجل له من الأدلة النقلية والعقلية ما يجعل إعادة النظر فيه أقرب إلى الترف الفكري منها إلى البحث عن الصواب، وعلى المسلم أن يسعه ما وسع صدر الأمة والقرون المزكاة وإجماع أهل العلم، وإن لم يكن الصواب في ذلك فلا صواب يُرجى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني