الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

شاب يصلي الضحى مثلا أو قيام الليل أي يقوم ببعض السنن التي من فعلها يثاب عليها ومن تركها لا شيء عليه فأحيانا يرائى فيها فقلت له: أن ذلك ليس لك أجر فيه. قال: أعلم. قلت: هذا شيء تمام. وقلت له: إنك تأثم بفعلك. قال: إن الأمر سنة أي ليس فيه شيء قلت له إذا كان الأمر كذلك فإن السنة هنا ليست متعلقة بأنك قمت بالعمل أو لا هذا أمر اختياري الأمر هنا والسوء في الرياء فهو من الشرك. قال: لا فإن العمل من السنة فإن جاء الرياء فيه أعلم أنه يحبط العمل ولكن طالما أنه من السنة لا عقاب في الرياء فيه. وهو يقيس على ذلك النوافل طبعا هو لا يقصد أن يرائى ولكن يدخل عليه الرياء وحديث الناس فلا يرده السؤال: هل المرائي في السنن لا إثم عليه كما في الفرض مع علمي أنه يحبط العمل هذا شيء أنا أعلمه ولكن أريد الإفادة فيما إذا كان حقا يعاقب الله عليه في السنن مثل الفروض أم لا شيء فيه على أساس أن العمل ليس بفرض؟ الرجاء عدم إحالتي إلى فتوى أخرى فإن الأمر مهم. جزيتم عنا الخير

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فالرياء في العبادة محرم، سواء كانت العبادة فريضة أو سنة قال الخادمي في بريقة محمودية: (وأما الرياء في العبادة التي كانت مشروعيتها لمجرد تعظيم الله وتحصيل رضاه فحرام كله بجميع أنواعه... وأما في النفل فلا يكفر، بل لا أجر له وعليه الوزر.

وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله في الزواجر عن اقتراف الكبائر :(قد شهد بتحريمه -الرياء- الكتاب والسنة وانعقد عليه إجماع الأمة. أما الكتاب: فمنه قوله عز قائلاً: الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ {الماعون: 6}.

وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ {فاطر: 10}.

قال مجاهد: هم أهل الرياء، وقال تعالى: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا {الكهف: 110}.

أي: لا يرائي بعمله، ومن ثم نزلت فيمن يطلب الأجر والحمد بعباداته وأعماله، وقال تعالى: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا {الإنسان: 9}.

وأما السنة فمنها ما رواه الإمام أحمد: إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر الرياء يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا انظروا هل تجدون عندهم جزاء...

وحد الرياء المذموم إرادة العامل بعبادته غير وجه الله تعالى، كأن يقصد اطلاع الناس على عبادته وكماله حتى يحصل له منهم نحو مال أو جاه أو ثناء، إما بإظهار نحول وصفرة ونحو تشعث شعر، وبذاذة هيئة وخفض صوت، وغمض جفن إيهاماً لشدة اجتهاده في العبادة، وحزنه وقلة أكله وعدم مبالاته بأمر نفسه لاشتغاله عنها بالأهم، وتوالي صومه وسهره، وإعراضه عن الدنيا وأهلها، وما درى المخذول أنه حينئذ أقبح من أراذلهم كالمكاسين وقطاع السبيل وأمثالهم، لأنهم معترفون بذنوبهم لا غرور لهم في الدين بخلاف ذلك المخذول الممقوت، وإما بإظهار زي الصالحين كإطراق الرأس في المشي والهدوء في الحركة، وإبقاء أثر السجود على الوجه، ولبس الصوف وخشن الثياب وتقصيرها، وغير ذلك إيهاماً أنه من العلماء والسادة الصوفية -رضي الله- عن محقيهم وخذل مبطليهم مع الإفلاس عن حقيقة العلم والتصوف بباطنه، وما درى المخادع أن كل ما وصل إليه لأجل هذا التلبيس حرام عليه قبوله، فإن قبله كان فاسقاً لأكله أموال الناس بالباطل، وإما بالوعظ والتذكير، وإظهار حفظ السنن ولقاء المشايخ وإتقان العلوم وغير ذلك من الطرق الكثيرة، إذ الرياء بالقول كثير وأنواعه لا تنحصر.

وإما بنحو تطويل أركان الصلاة وتحسينها، وإظهار التخشع فيها وكذا الصوم والحج وغيرهما من العبادات.

وأنواع الرياء بالأعمال لا تنحصر، وربما أن المرائي من شدة حرصه على إحكام الرياء، وإتقانه يتألف ذلك بفعله في خلواته ليكون ذلك خلقاً له في الملإ لا للخوف من الله تعالى والحياء منه، وإما بالأصحاب والزائرين والمخالطين كمن يطلب من عالم أو أمير أو صالح أن يأتي إليه لزيارته إيهاماً لرفعته وتبرك الأكابر به، وكمن يذكر أنه لقي شيوخاً كثيرين افتخاراً بهم وترفعاً بذلك على غيره.

فهذه مجامع أبواب الرياء الحامل إيثارها على طلب نحو الجاه والمنزلة واشتهار الصيت حتى تنطلق الألسن بالثناء عليه، ويجلب الحطام من سائر الآفاق إليه.

ومنها: حيث أطلق الرياء على لسان حملة الشرع فالمراد به المذموم الذي مر حده، ثم إن لم يقصد غير الرياء فعبادته باطلة، وليته لم يحصل له من السوء غير ذلك، بل عليه عظيم الإثم وقبيح الذم، كما علم تفصيل ذلك من الآيات والأحاديث السابقة، والمعنى في تحريمه وكونه كبيرة وشركاً -مقتضيا للعن- أن فيه استهزاء بالحق تعالى كما مرت الإشارة إليه في الأحاديث، ومن ثم قال قتادة كما مر: إذا راءى العبد قال الله تعالى: انظروا إليه كيف يستهزئ بي، ويوضحه أن أحد خدام الملك القائمين في خدمته لو كان قاصداً بوقوفه فيها ملاحظة أمة أو أمرد للملك كان ذلك عند كل من له أدنى مسكة من عقل استهزاء بذلك الملك، لأنه لم يقصد تقرباً إليه بوجه مع إيهامه أنه على غاية من التقرب، وحينئذ فأي استحقار واستهزاء يزيد على قصدك -بعبادة ربك- مثلك عاجزاً عن نفسه من سائر الوجوه فضلاً عنك، ومع ذلك فقصدك إياه متبرعاً بعبادتك ينبئ عن اعتقادك فيه أنه أقدر على تحصيل أغراضك من الله، فرفعت العبد الضعيف العاجز على مولاك القوي القادر، ومن ثم كان الرياء من كبائر الكبائر المهلكة، ولهذا سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشرك الأصغر.

وفيه أيضاً تلبيس على الخلق لإيهامه لهم أنه مخلص مطيع لله تعالى وهو بخلاف ذلك، بل التلبيس في الدنيا حرام أيضاً حتى لو قضى دين إنسان ليخيل إليه أو إلى غيره أنه متبرع حتى يعتقدوا سخاوته أثم به لما فيه من التلبيس وتملك القلوب بالخداع والمكر، فإن قلت: قد تقرر وجه كون الرياء الشرك الأصغر، فما وجه افتراقه من الشرك الأكبر؟ قلت: يتضح ذلك بمثال هو أن المصلي حتى يقول الناس: إنه صالح مثلاً يكون رياؤه سبباً باعثاً له على العمل، لكنه في خلال ذلك العمل تارة يقصد به تعظيم الله تعالى، وتارة لا يقصد به شيئاً، وفي كل منهما لم يصدر منه مكفر بخلاف الشرك الأكبر، فإنه لا يحصل في هذا إلا إذا قصد بالسجود مثلاً تعظيم غير الله تعالى، فعلم أن المرائي إنما نشأ له ذلك الشرك بواسطة أنه عظم قدر المخلوق عنده حتى حمله ذلك التعظيم على أن يركع ويسجد، فكان ذلك المخلوق هو المعظم بالسجود من وجه، وهذا هو عين الشرك الخفي لا الجلي وذلك غاية الجهل، ولا يقدم عليه إلا من خدعه الشيطان وأوهم عنده أن العبد الضعيف العاجز يملك من معايشه ومنافعه أكثر مما يملكه الله تعالى، فلذلك عدل بوجهه وقصده إليهم عن الله تعالى، فأقبل يستميل قلبهم فيكله -تعالى- إليهم في الدينا والآخرة كما مر في الأحاديث: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون فاطلبوا ذلك عندهم.

وهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً سيما في الآخرة: يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ {الشعراء: 88-89}. يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ {لقمان: 33}.

وقد يطلق الرياء على أمر مباح وهو طلب نحو الجاه والتوقير بغير عبادة كأن يقصد بزينة لباسه الثناء عليه بالنظافة والجمالة ونحو ذلك، وقس على ذلك ما أشبهه من كل تجمل وتزين وتكرم لأجل الناس، كالإنفاق على الأغنياء لا في معرض العبادة والصدقة، بل ليقال: إنه سخي، ووجه عدم حرمة هذا النوع أنه ليس فيه ما مر في المحرم من التلبيس بالدين والاستهزاء برب العالمين، وقد كان صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الخروج سوى عمامته وشعره ونظر وجهه في المرآة فقالت عائشة رضي الله عنها: أو تفعل ذلك يا رسول الله؟ فقال: نعم إن الله يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا خرج إليهم.

نعم هذا منه صلى الله عليه وسلم عبادة متأكدة، لأنه مأمور بدعوة الخلق واستمالة قلوبهم ما أمكنه، إذ لو سقط من أعينهم لأعرضوا عنه فلزمه أن يظهر لهم محاسن أحواله لئلا يزدروه فيعرضوا عنه لامتداد أعين عامة الخلق إلى الظواهر دون السرائر، فهذا قصده صلى الله عليه وسلم وفيه قربة أي قربة، ويجري ذلك في العلماء ونحوهم إذا قصدوا بتحسين هيئاتهم نحو ذلك. انتهى كلام ابن حجر الهيتمي نقلناه بطوله لما فيه من فوائد جمة.

وأما هل الرياء يبطل العمل أو لا؟ ففيه تفصيل بيناه في الفتوى رقم: 49482.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني