الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تكليف الجن وعبادتهم وحجهم.

السؤال

السلام عليكم هل الجن مكلفون بالحج مثل الإنس ؟ وهل يحجون مع الإنس فى نفس التوقيت ؟ وهل يرجمون إبليس ؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد:

أولاً : فالذي دل عليه القرآن والسنة أن الجن مكلفون بالإيمان وبالشرائع ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهـم كما بعث إلى الإنس ، وأن الجن فيهم المؤمن والكافر ، والصالح والطالح ، وأن مصير المؤمنين منهم الجنة، وأن مثوى الكافرين النار .
قال الله تعالى : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) .[ الأنبياء: 107].
وقال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ) . [الذاريات: 56].
وقال تعالى : ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا ). [ الأنعام : 130].
وقد قص الله لنا خبر استماعهم وإنصاتهم للقرآن الكريم ، وانقلابهم إلى قومهم منذرين ، قال تعالى : ( وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلمّا قضي ولَّوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنّا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ). [ الأحقاف : 29 - 31] .
وقال تعالى : ( قل أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً ). [الجن : 1-2].
والدليل على أن فيهم المسلم والكافر ، والصالح والطالح هو قوله تعالى : ( وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً ). [ الجن : 11] .
وقوله تعالى : ( وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً * وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً ) . [ الجن : 14 - 15] .
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى : ( سنفرغ لكم أيها الثقلان) . [ الرحمن: 31].
[ هذه السورة و " الأحقاف" و " قل أوحي" دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء ، مؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم ، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك ] انتهى .
لكن من أهل العلم من قال: ليس للجن في الآخرة إلاّ أنهم يجارون من عذاب النار ثم يقال لهم : كونوا تراباً مثل البهائم ، وقد عزا القرطبي هذا القول لأبي حنيفة رحمه الله ، ثم قال القرطبي : وقال آخرون : إنهم كما يعاقبون في الإساءة يجازون في الإحسان مثل الإنس ، وإليه ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى ، وقد قال الضحاك : الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون ، قال القشيري : والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء والعلم عند الله . انتهى كلام القرطبي وهو في تفسير سورة الأحقاف .
وقد استنبط القرطبي رحمه الله في مواضع من تفسيره أنهم يدخلون الجنة كالإنس ومن ذلك قوله تعالى عن الحور العين في الجنة : (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جانّ) . [الرحمن: 56].
وقوله تعالى: ( وأنا لمّا سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً).
[الجن: 13] .
قال ابن عباس : لا يخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته .
وقد احتج البخاري بهذه الآية وترجم في صحيحه فقال : باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم ، وذلك في كتاب "بدء الخلق" .
وذكر الحافظ في الفتح ما رواه ابن أبي حاتم من طريق أبي يوسف قال: قال ابن أبي ليلى في هذا : لهم ثواب ، قال : فوجدنا مصداق ذلك في كتاب الله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا) .
قال الحافظ : وإلى هذا أشار المصنف ( البخاري) … واستدلّ بهذه الآية أيضاً ابن عبد الحكم ، واستدل ابن وهب في مثل ذلك بقوله تعالى: ( أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس) الآية . فإن الآية بعدها أيضاً : ( ولكل درجات مما عملوا) ونقل عن مالك أنه استدل على أن عليهم العقاب ولهم الثواب بقوله تعالى: ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ثم قال ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) والخطاب للإنس والجن ، فإذا ثبت أن فيهم مؤمنين-، والمؤمن من شأنه أن يخاف مقام ربه - ثبت المطلوب والله أعلم. انتهى كلام الحافظ .
وقد ساق الإمام ابن القيم الحجج المذكورة كلها وزاد عليها في مبحث قيم ضمن كتابه : "طريق الهجرتين" عند الحديث عن الطبقة الثامنة عشرة من طبقات المكلفين : طبقة الجن .
ثانياً : وينبني على ما سبق أنهم مكلفون بالحج وغيره من العبادات ، وقولك في السؤال : وهل يحجون مع الإنس في نفس التوقيت ؟ يجاب عنه بنعم ، فليس للحج إلا وقت واحد معلوم .
ثالثاً : قولك : وهل يرجمون إبليس ؟
اعلم وفقك الله ، أن المشروع في الحج هو رمي الجمار ، اقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم ، وهذا المكان الذي يرمى - وإن ذكرنا بحال خليل الله إبراهيم عليه السلام وهو يرجم الشيطان - إلا أنه الآن ليس شيطاناً ، ولم يرد في الكتاب أو السنة ما يفيد إطلاق هذا التعبير " رجم إبليس" وإنما الوارد : رمي جمرة العقبة والجمرة الصغرى والوسطى .لكن جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه الحاكم والبيهقي بعد ذكر ما كان من إبراهيم عليه السلام ورجمه للشيطان : ( الشيطان ترجمون وملة أبيكم تتبعون ).
وهو محمول - إن شاء الله - على الرجم المعنوي ، فإن الشيطان يؤذيه امتثال المؤمنين وطاعتهم ، مع ما يشتمل عليه رجم الجمار من التكبير والدعاء ، مما لا يود الشيطان سماعه.
وقد روى أبو داود في سننه من حديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله " .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان في تفسير سورة الحج : [ فذكر الله الذي يشرع الرمي لإقامته هو الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان ، ورميه ، وعدم الاتقياد له ، والله يقول ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ) . [ الممتحنة : 4] . فكأن الرمي رمز وإشارة إلى عداوة الشيطان التي أمرنا الله بها في قوله تعالى ( إن الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدواً ). [فاطر: 6] ، وقوله منكراً على من والاه : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو) . [ الكهف : 50] ومعلوم أن الرجم بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة ) انتهى .

رابعاً : قال بعض أهل العلم : إن الجن ربما خالفوا الإنس في بعض التكاليف ، لاختلاف طبيعتهم عن طبيعة الإنس .
قال الإمام الزركشي في البحر المحيط في أصول الفقه (1/384)
وقد وقع نزاع بين المتأخرين في أن الجن مكلفون بفروع الدين ، فقال بعض محققيهم : إنهم مكلفون بها في الجملة لكن لا على حد تكليف الإنس بها لأنهم يخالفون الإنس بالحد والحقيقة ، فبالضرورة يخالفونهم في بعض التكاليف .
مثاله أن الجن قد أعطى بعضهم قوة الطيران في الهواء فهو مخاطب بقصد البيت الحرام للحج طائراً ، والإنسان لعدم تلك القوة لا يخاطب بذلك ، هذا في طرف زيادة تكليفهم على تكليف الإنس ، فكل تكليف يتعلق بخصوص طبيعية الإنس ينتفي في حق الجن ، لعدم تلك الخصوصية فيهم .
والدليل في حق الجن بالفروع الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بالقرآن إلى الإنس والجن ، وجميع أوامره ونواهيه يتوجه إلى الجنسين ، وقد تضمن ذلك أن كفار الإنس مخاطبون بها ، وكذلك كفار الجن ) انتهى كلام الزركشي .
والله تعالى أعلى وأعلم .

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني