الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

عذاب القبر.. دائم أم منقطع

السؤال

وقعت على كلام للشيخ العلامه ابن عثيمين عليه رحمة الله تعالى، قال في كتاب فتاوى العقيدة صفحة 469 رقم السؤال 251 يقول عليه رحمة الله: وأما إن كان عاصيا وهو مؤمن فإنه إذا عذب في قبره يعذب بقدر ذنوبه وربما يكون عذاب ذنوبه أقل من البرزخ الذي بين موته وقيام الساعة وحينئذ يكون منقطعا. انتهى كلامه.. يقصد الشيخ أنه يوجد عذاب منقطع في القبر، والسؤال هو: أين الدليل على انقطاع العذاب في القبر، وجزاكم الله خيراً وأسأل الله أن يوفقكم في الرد لأن الموضوع مهم جداً؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإنا لم نقف على نص في المسألة، ولكنها قد ذكرها الأئمة القدامى فقد ذكرها ابن أبي العز في شرح الطحاوية، وذكرها ابن القيم في الروح، ولا نعلم مخالفاً في هذا، وما ذكروه يدل له أن الذنوب تتفاوت عقوبتها، فمقتضى العدل الرباني يقضي بأن من وقعت منه معاص قليلة يعاقب بقدر جرمه، وقد يتكرم الله عليه فيرحمه بسبب دعوة صالحة من الأحياء أو صدقة أو استغفار، أو ثواب حج، أو قراءة تصل إليه من بعض أقاربه أو غيرهم.

ففي شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز: وهل يدوم عذاب القبر أو ينقطع؟ جوابه أنه نوعان: منه ما هو دائم، كما قال الله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ. وكذلك في حديث ابن عازب في قصة الكافر... ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة. رواه أحمد.

والنوع الثاني: يستمر مدة ثم ينقطع، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه. انتهى.

وقد تكلم ابن القيم في الروح على مسألة انقطاع عذاب القبر عن بعض العصاة، واستأنس لها ببعض الوقائع فقال: المسألة الرابعة عشرة: وهي قوله: هل عذاب القبر دائم أو منقطع؟ جوابها: أنه نوعان (نوع دائم) سوى ما ورد في بعض الأحاديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين، فإذا قاموا من قبورهم، قالوا: يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا. ويدل على دوامه قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا. ويدل عليه أيضاً ما تقدم في حديث سمرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة، وفي حديث ابن عباس في قصة الجريدتين لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا، فجعل التخفيف مقيداً برطوبتهما فقط، وفي حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة: ثم أتي على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، وقد تقدم. وفي الصحيح في قصة الذي لبس بردين وجعل يمشي يتبختر فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.

وفي حديث البراء بن عازب في قصة الكافر ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة. رواه الإمام أحمد وفي بعض طرقه: ثم يخرق له خرقاً إلى النار فيأتيه من غمها ودخانها إلى يوم القيامة.

(النوع الثاني) إلى مدة ثم ينقطع، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم فيعذب بحسب جرمه، ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب، وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء، أو صدقة، أو استغفار، أو ثواب حج، أو قراءة تصل إليه من بعض أقاربه أو غيرهم، وهذا كما يشفع الشافع في المعذب في الدنيا فيخلص من العذاب بشفاعته، لكن هذه شفاعة قد لا تكون بإذن المشفوع عنده، والله سبحانه وتعالى لا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع إذا أراد أن يرحم المشفوع له، ولا تغتر بغير هذا فإنه شرك وباطل يتعالى الله عنه من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه- ولا يشفعون إلا لمن ارتضى- ما من شفيع إلا من بعد إذنه- ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له- قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السماوات والأرض.

(وقد ذكر) ابن أبي الدنيا حدثني محمد بن موسى الصائغ، حدثنا عبد الله بن نافع، قال: مات رجل من أهل المدينة فرآه رجل كأنه من أهل النار فاغتم لذلك، ثم أنه بعد ساعة أو ثانية رآه كأنه من أهل الجنة، فقال: ألم تكن قلت: إنك من أهل النار، قال: قد كان ذلك، إلا أنه دفن معنا رجل من الصالحين فشفع في أربعين من جيرانه فكنت أنا منهم.

قال ابن أبي الدنيا: وحدثنا أحمد بن يحيى قال: حدثني بعض أصحابنا قال: مات أخي فرأيته في النوم فقلت: ما كان حالك حين وضعت في قبرك؟ قال: أتاني آت بشهاب من نار، فلولا أن داعيا دعا لي لرأيت أنه سيضربني به. وقال عمر بن جرير: إذا دعا العبد لأخيه الميت أتاه بها ملك إلى قبره فقال: يا صاحب القبر الغريب هدية من أخ عليك شفيق.

وقال بشار بن غالب: رأيت رابعة في منامي وكنت كثير الدعاء لها، فقالت لي: يا بشار بن غالب هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل الحرير، قلت: كيف ذلك؟ قالت: هكذا دعاء المؤمنين الأحياء إذا دعوا للموتى استجيب لهم، وجعل ذلك الدعاء على أطباق النور وخمر بمناديل الحرير ثم أتي بها الذي دعي له من الموتى فقيل: هذه هدية فلان إليك.

قال ابن أبي الدنيا: وحدثني أبو عبيد بن بحير قال: حدثني بعض أصحابنا قال: رأيت أخا لي في النوم بعد موته فقلت: أيصل إليكم دعاء الأحياء، قال: أي والله يترفرف مثل النور ثم يلبسه. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني