الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حجاج منسيون

حجاج منسيون

حجاج منسيون

إذا كان أغلب الناس يذهبون إلى الحج لأداء الفريضة، ويعتبرون ذلك رحلة إيمانية، تقربهم إلى الله زلفى؛ وإذا كان البعض الآخر يذهبون لتحقيق منافع دنيوية، إضافة للمنافع الدينية؛ فإن وراء هذين الفريقين فريق ثالث، لا يشكل من حيث العدد وزنًا يذكر، لكنه من حيث الأثر والفعل له وزن كبير، واعتبار جدير بالتقدير.

وإذا كان الحديث عن قاصدي البيت الحرام عمومًا، يملأ كثيرًا من وسائل الإعلام المقروؤة والمسموعة؛ فثمة قلة من هؤلاء القاصدين، لا تقف لهم على ذكر، ولا تكاد تجد لهم أي حضور من قريب أو بعيد في تلك الوسائل.

والحديث في هذا المقال يتركز على هذا الفريق المنسي من الحجاج، الذي أنعم الله عليه بنعمة الإسلام، وأكرمه بنعمة الإيمان، ثم تهيأت له الأسباب لأداء فريضة الحج، وعاد إلى بلاده بروح جديدة، وعزيمة قوية، فكانت رحلة الحج بالنسبة له ميلادًا جديدًا، وخروجًا من الظلمات إلى النور. وكانت آثار تلك الرحلة على أهله وقومه آثار خير وبركة.

وهؤلاء الحجاج المنسيون، إن فتشت عنهم، وتتبعت أخبارهم، لا شك أنك واجد لهم في أنحاء شتى من المعمورة؛ فهم موجودون في أقصى الشرق، وتحديدًا في أندونسيا، وهم موجودون على امتداد قارة أفريقيا، وهم موجودون كذلك في العديد من دول ما يعرف بالاتحاد السوفياتي سابقاً.

ولعلنا نقف مع بعض النماذج الفاعلة - وتحديدًا من قارة أفريقيا - والتي كان لها دور كبير، في حمل رسالة الإسلام إلى أقوامها، وفتح بصائرها على الدين القويم، وهدايتها إلى الطريق المستقيم.

لقد قام الدعاة إلى الله - ولا يزالون - بنشر دعوة الإسلام في ربوع الأرض كافة، وكان من بين الأماكن التي قصدوها بلاد أفريقيا، تلك البلاد التي لا تزال تعيش في ظل تخلف على المستويات كافة.

وكان من منهج هؤلاء الدعاة، بعد أن يعرضوا الإسلام على أهالي تلك البلاد، تركيز جهودهم على شخصيات ذات أثر فاعل بين قومها، وحضور مشهود في مجتمعاتها، فيرسلونها لأداء فريضة الحج، لتعود بعدها إلى قومها، وتقوم بالدعوة إلى الله، ونشر رسالة الإسلام بينهم.

في قرية في جنوب دولة تشاد، كانت هناك شخصية بارزة، ساهمت بشكل كبير في نشر الإسلام بين أهالي جنوب تشاد. إنها شخصية السلطان ( بياتريست تكورال ). كانت قريته من أوائل القرى التي دخلتها المسيحية، وكان هذا السلطان من أوائل السلاطين الذين اعتنقوا المسيحية. ولما قام بعض الدعاة إلى الله بزيارة تلك القرى في جنوب تشاد عرض الإسلام على ذلك السلطان، وأطلعه على حقيقته، فأنعم الله عليه بنعمة الإسلام، وفي اليوم الذي أسلم فيه لم يرض أن ينام، إلا بعد أن يحفظ سورة الفاتحة وسورة الإخلاص.

ثم بجهود أهل الخير والإيمان، تم إرسال السلطان ( تكورال ) لأداء فريضة الحج، وهناك غير اسمه إلى ( عبد العزيز كورال )، فحج ورأى في تلك الديار ما رأى، ثم عاد إلى قومه غير الذي كان، وبدأ ينشر الإسلام بين بني قومه، فأسلم على يديه العشرات من الناس، وأصبح عدد الذين أسلموا على يديه حتى الآن أكثر من ثمانين ألفًا، كان من بينهم ثمانية سلاطين. وقد ساهم العديد من الذين أسلموا بدورهم في نشر الإسلام في جنوب تشاد، حتى يمكن القول: إن الخارطة السكانية في جنوب تشاد قد بدأت تشهد تغييرًا ملحوظًا في الانتماءات الدينية، وما ذلك إلا نتيجة لجهود ذلك السلطان وأتباعه. وقد أصبح السلطان عبد العزيز زعيم المسلمين في جنوب تشاد.

( سليمان تنكاري ) كان سلطانًا على قرية من قرى جنوب تشاد، الذين يتمتعون بسلطات واسعة. كان في بداية أمره قسيسًا، يدين بدين المسيحية، غير أنه كان شخصاً منفتح العقل، يبحث عن الحق. وقد كتب الله له الإسلام على يد قافلة من قوافل الخير، ثم خضع لدورة تعليمية لمبادئ الإسلام وأصوله. وبعد أن أتم تلك الدورة، اختير لأداء فريضة الحج، فذهب إلى رحاب الحرمين الشريفين، وشعر فيهما بالعديد من القيم الإنسانية والدينية؛ وبعد أن رجع من الحج أصبح داعيًا إلى الله، وتفرغ لشؤون الدعوة، وبعد ثلاث سنوات من حجه أسلمت على يديه إحدى عشرة قرية من قرى تشاد.

ومن الجهود المباركة التي عمل عليها هذا السلطان، أنه أسس مكتبًا خاصًا للمهتدين الجدد للإسلام، سعى من خلال هذا المكتب إلى تثبيت المهتدين الجدد على دين الإسلام، ودعوة الآخرين للدخول فيه.

ومن الأعمال الحميدة التي تحققت على يد هذا السلطان، إسلام أكثر من ثلاثمائة شخص من إقليم (دونكو) في تشاد؛ إضافة إلى إسلام واحد وأربعين رجلاً، وست عشرة امرأة في قرية (كوح بامبو) بمن فيهم رئيس القرية.

وفي قرية (كوح كودينكا) أسلم على يد السلطان عبد العزيز تسعة أشخاص. وفي قرية (ناغيمي) أسلم على يده أربعة أشخاص. وفي قرية (كوح كودي) أسلم ثمانية وثلاثون رجلاً، وإحدى وعشرون امرأة. وكان من جملة من أسلم على يد هذا السلطان رؤساء ثلاث قرى من قرى تشاد.

وفي قرية (تاهولو) والتي يدين سكانها جميعاً بالمسيحية، بدأ السلطان عبد العزيز دعوته في تلك القرية، ولقي من أهلها كثيراً من الصعاب والعنت، إلى أن أثمرت جهوده في تلك القرية، وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وأصبح أكثر سكان هذه القرية من الذين يدينون بدين الحق.

ومن الأعمال المباركة التي قام بها هذا السلطان، أنه أنشأ بناء من قش، لتقام فيه صلاة الجمعة، وكان يأتي إليه العديد من القرى المجاورة لأداء تلك الصلاة، وكان السلطان عبد العزيز يقوم بترجمة خطبة الجمعة إلى اللغات المحلية، ليستفيد منها أكبر عدد ممكن.

ولم تقتصر دعوة هذا السلطان على عامة الناس فحسب، بل اتجهت جهوده إلى دعوة زعماء الكنيسة الكاثوليكية في تشاد، وإلى العديد من السلاطين، حيث كان هؤلاء السلاطين في كثير من الأحيان يشكلون سداً منيعاً، يحول دون دخول الكثير من الناس في الإسلام؛ وكان السلطان عبد العزيز يخاطبهم بقوله: دعونا نتحاور ونتناقش، فإذا كان الحق فيما تقولون، فإني أشهدكم أنني سأدع دين الإسلام، وأعود لدين المسيحية؛ وإن كان الحق فيما أقول، فينبغي عليكم أن تملكوا الشجاعة الكافية لقبول الإسلام وترك المسيحية؛ وكان من نتائج تلك اللقاءات أن أسلم على يديه أحد القساوسة، ثم تبعه آخر بعد فترة قصيرة.

وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي تحيط بهذا السلطان، والمعوقات الكثيرة التي تعترض طريق دعوته، لا يزال السلطان عبد العزيز يقوم بواجب الدعوة إلى الله بكل ما أوتي من قوة وعزيمة، حتى إنه يقوم بجولاته الدعوية على دارجة عادية، يستعين بها على قطع المسافات، حاملاً إلى سكان تلك البلاد دعوة الإسلام، وداعياً إلى الله على بصيرة.

وفي كينيا قبائل تدعى (الماساي) وهي قبائل وثنية، لا تعرف ديناً، ولا شيئاً من هذا القبيل. من بين رجال هذه القبائل شخص يدعى ( مالك ماغوي ) أسلم في المركز الإسلامي في كينيا؛ ثم أرسل إلى الحج، وعاد إلى بلده، وكان شغله الشاغل الدعوة إلى الله، فأسلم على يديه العديد من الناس، ودخلت العديد من القرى في الإسلام نتيجة دعوة هذا الرجل.

وفي دولة بنين كان كبير المشعوذين في الجنوب، حاقداً على الإسلام وأهله أشد الحقد، وكان يستخدم السحر لصد المسلمين عن دينهم، حتى إنه طرد العديد منهم. وبعد جهد جهيد من دعوته إلى الإسلام، أسلم ذلك الرجل، وحسن إسلامه، وبعد سنوات من إسلامه، تم إرساله إلى الحج على نفقة بعض أهل الخير.

بعد عودته من الحج، دخل مئات من الناس في الإسلام على يد هذا الرجل، وأسلمت قرى كثيرة في بنين نتيجة جهوده، وأصبح من كبار الدعاة إلى الله في دولة بنين.

وفي دولة موزمبيق، وتحديداً في إقليم (نياسا) كان ( خالد قاسم ) قد أسلم على يد الدعاة إلى الله، وبعد أن كتب الله له أداء فريضة الحج، ذهب إلى تلك الديار، وتأثر تأثراً كبيراً بما شاهده في تلك الرحلة. وأثناء أدائه لمناسك الحج كان يدعو لأهله وقومه أن يهديهم الله إلى الإسلام، ولما عاد إلى بلده كان في استقباله في المطار ثلاثون ألفاً؛ حيث أن أهالي تلك البلاد كانوا لا يصدقون أن هناك إنساناً يذهب إلى مكة ويعود، إذ كان من عقيدتهم أن مكة في الجنة، والذاهب إليها إنما هو ذاهب إلى الجنة، والجنة ليست في الحياة الدنيا، وإنما هي في الحياة الآخرة؛ لذلك لما سمع أولئك القوم بخبر عودة قاسم من مكة، بادروا سراعاً ليتأكدوا من صحة الخبر، فلما تبين لهم حقيقة الأمر، وسمعوا من قاسم الكثير عن الإسلام، أعلن العديد منهم إسلامهم.

وفي منطقة نائية في الجنوب الشرقي من أفريقيا الوسطى، حيث تعيش قبائل الأقزام، وهم وثنيون، يعبدون الأرواح، ويعيشون حياة بدائية. كان ( مختار ) من أوائل الرجال الذين أسلموا بين أفراد تلك القبائل، وكان عوناً على نشر دعوة الإسلام.

وقصة ( مختار ) مع الإسلام قصة طويلة؛ فبعد أن أعلن إسلامه، التحق بدورة تعليمية، اكتسب من خلالها كثيراً من مبادئ الدين الحنيف، ثم أخذ يدعو أهله والمقربين إلى دين الإسلام، فأسلمت زوجته وابناه وبعض من أقاربه.

ثم قيض الله لـ ( مختار ) من يتكفل بإرساله لأداء فريضة الحج؛ وبعد أن وطئت قدامه أرض الحرمين الشريفين، تأثر تأثرًا بليغًا من مظاهر الوحدة والإخاء التي وجد عليها المسلمين، وكان من جملة ما قال، وهو يصف مشاعره: "لا أستطيع أن أصف مشاعري وأنا أرى الكعبة، فعندما رأيتها بكيت وبكيت كثيراً، ودعوت لمن كان سبباً في إرسالي للحج، ولمن كان سبباً في إسلامي".

كان ( مختار ) أثناء أدائه لمشاعر الحج، يبتهل إلى الله أن يهدي الله أهله وقومه؛ وبعد أن أتم مناسكه ورجع إلى بلده أخذ يحدث الناس بما رأى من مظاهر الحج، وأخذ يحدثهم عن دين الإسلام ومبادئه، فتأثر العديد من الأقزام بكلامه، ودخل الكثير منهم في الإسلام. ولا يزال حتى اليوم يقوم بواجب الدعوة إلى الله، ويبذل كل ما في وسعه في سبيل نشر دعوة الإسلام بين أفراد قومه.

وأمثال هذه القصص كثير، وليس الغرض الإحصاء والتتبع، بل القصد التنويه والتذكير بهؤلاء المنسيين من الحجاج، الذين استطاعوا أن يتركوا بصمات في مجتمعاتهم، بل استطاعوا بجهودهم المباركة، أن يغيروا الخارطة السكانية للعديد من قرى أفريقيا، في ظل الجهل والبؤس الذي تعيش فيه تلك البلاد، فكانت رحلة الحج بالنسبة لهم ولأقوامهم ميلاد عهد جديد، وبداية رحلة مع الله، ذاقوا فيها طعم الإيمان، وعرفوا خلالها حقيقة الإسلام. وصدق الله إذ يقول: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } (التوبة:32)، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ( وليتمنَّ الله هذا الأمر ) رواه البخاري .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة