الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فالوذج بدهن الفستق

فالوذج بدهن الفستق

فالوذج بدهن الفستق

ذكر الإمام الخطيب البغدادي في كتابه العظيم ـ تاريخ بغداد" في ترجمة القاضي أبي يوسف (يعقوب بن إبراهيم ـ المتوفى سنة182) تلميذ الإمام أبي حنيفة رحمهم الله أجمعين، عن أبي يوسف وهو يحكي عن نشأته قال: "كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقل رث الحال، فجاء أبي يوماً وأنا عند أبي حنيفة، فانصرفت معه فقال: يا بني لا تمدن رجلك مع أبي حنيفة فإن أبا حنيفة خبزه مشوي (يعني في سعة وغنى) وأنت تحتاج إلى المعاش.. فقصرت عن كثير من الطلب وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة وسأل عني، فجعلت أتعاهد مجلسه.. فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه قال لي: ما شغلك عنا؟ قلت: الشغل بالمعاش وطاعة والدي فجلست، فلما انصرف الناس دفع إلي صرة وقال: استمتع بهذه. فنظرت فإذا فيها مائة درهم، فقال لي: الزم الحلقة وإذا نفذت هذه فأعلمني، فلزمت الحلقة، فلما مضت مدة يسيرة دفع إلي مائة أخرى ثم كان يتعاهدني، وما أعلمته بخلّة قط ولا أخبرته بنفاذ شيء، وكان كأنه يُخبَر بنفاذها حتى استغنيت وتمولت".

وفي كتاب "مناقب أبي حنيفة" للموفق الخوارزمي زيادة، قال أبو يوسف: "فلزمت مجلسه 29 سنة حتى بلغت حاجتي، وفتح الله لي ببركته وحسن نيته ما فتح من العلم والمال، فأحسن الله عني مكافأته وغفر له".

وبعد أن ذكر الخطيب هذه القصة مباشرة ساق قصة أخرى في نشأة أبي يوسف، ولكنه ساقها بصيغة التمريض والتضعيف فقال الخطيب رحمه الله: "وحُكِىَ أن والد أبي يوسف مات وخلف أبا يوسف طفلاً صغيراً وأن أمه هي التي أنكرت عليه حضوره حلقة أبي حنيفة.

ثم ساق السند إلى أبي يوسف القاضي قال: "توفي أبي إبراهيم بن حبيب وخلفني صغيراً في حجر؛ أمي فأسلمتني إلى قصار (خياط) أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعنى بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي قالت لأبي حنيفة: "ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه". فقال لها أبو حنيفة: مرِّي يا رعناء.. هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق. فانصرَفَت عنه، وقالت له: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك.

ثم لزمته فنفعني الله بالعلم ورفعني حتي تقلدت القضاء، وكنت أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلي هارون فالوذج، فقال لي هارون: يا يعقوب، كُلْ منه فليس كل يوم يعمل لنا مثله. فقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا "فالوذج بدهن الفستق" فضحكت، فقال لي: مم ضحكت؟ فقلت: خيراً.. أبقى الله أمير المؤمنين قال: لتخبرني - وألح علي - فخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك وقال: لعمري إن العلم ليرفع وينفع ديناً ودنيا، وترحم على أبي حنيفة، وقال: كان ينظر بعين عقله مالا يراه بعين رأسه".

وهذه القصة وإن كان في سندها ضعف إلا أنها تقر حقيقة لا تحتمل التكذيب ألا وهي "أن العلم لا يخذل أهله"، بل كما قال الرشيد: "إن العلم ليرفع وينفع ديناً ودنيا"..

فهذا الإمام العلم القاضي الشهير والحافظ الكبير والعلامة الفقيه النحرير "شريك بن عبد الله" الذي ارتبط به وصف القضاء لكثرة ما قضاه فيه، يحكي عنه يحيى بن يزيد، كما جاء في تاريخ بغداد، يقول يحيى: "مر شريك القاضي بالمستنير بن عمرو النخعي فجلس إليه فقال: يا أبا عبد الله من أدبك؟ قال: أدبتني نفسي والله، ولدت بخراسان ببخارى فحملني ابن عم لنا حتى طرحني عند بني عم لي بنهر صرصر، فكنت أجلس إلى معلم لهم، فعلق بقلبي تعلم القرآن فجئت إلى شيخهم فقلت: يا عماه! الذي كنت تجرى علي ههنا أجره علي بالكوفة أعرف بها السنة وقومي، ففعل، قال: فكنت بالكوفة أضرب اللبن وأبيعه وأشتري دفاتر وطروساً فأكتب فيها العلم والحديث، ثم طلبت الفقه فبلغت ما ترى.
فقال المستنير بن عمرو لولده: سمعتم قول ابن عمكم، وقد أكثرت عليكم في الأدب ولا أراكم تفلحون فيه، فليؤدب كل رجل منكم نفسه، فمن أحسن فلها ومن أساء فعليها.

وقد أثبت هذا المعنى الإمام الهمام والعالم الرحال (أسد بن الفرات) الذي طوّف بين المشرق والمغرب ولقي أعلام العلماء في الدنيا وتتلمذ على أساتذة الفقه والحديث حتى صار من أعلام مذهب الإمام مالك.. ثم بعد التطواف والتحمل بأنواع العلوم رجع إلى القيروان فذاع صيته وظهر علمه وارتفع قدره؛ حتى ولاه الأمير قيادة الجيش والأسطول المتجه لغزو صقلية وقضاءه أيضا.. فخرج في حفل عظيم وجمع فخيم من أهل العلم ووجوه الناس، فلما رأى "أسد" الناس خاصتهم وعامتهم بين يديه وخلفه قال لهم بعد حمد الله : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يا معشر الناس، والله ما ولِيَ لي أبٌ ولا جد ولاية قط، ولا أحد من سلفي رأى هذا قط، وما رأيت ما ترون إلا بالأقلام ـ يعني بتعلم العلم وتحصيله وكتابته وخدمته ـ، فأجهدوا أنفسكم، وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، واصبروا على شدته، فإنكم تنالون خيري الدنيا والآخرة".

ورحم الله الإمام ابن حزم الأندلسي حين قال:
من لم ير العلم أغلى .. .. .. من كل شيء يصاب
فليس يفلــــــح حتى .. .. .. يُحثَى علـــيه التراب.

فمن أراد الرفعة في الدنيا والآخرة فعليه بطلب العلم بشروطه وآدابه.. وما أصدق قول ابن هشام، وما كان أشد نصحه لطلبة العلم حين قال:
ومن يصطبر للعــــلم يظفــــــر بنيله .. .. .. ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
ومن لم يذل النفس في طلب العلا .. .. .. يســـيرا يعش دهـــرا طويلا أخــا جهل.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة