
الشورى هي أن يأخذ الإنسان برأي أصحاب العقول الراجحة والأفكار الصائبة، ويستشيرهم حتى يتبين له الصواب فيتبعه، ويتضح له الخطأ فيجتنبه، ومع كون النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً ومؤيَّداً بالوحي، إلا أنه حرص على استشارة أصحابه في الكثير من الغزوات والأحداث الهامة التي وقعت في حياته، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}(آل عمران:159). قال الطبري في تفسيره: "قال سفيان بن عيينة في قوله:"{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}، قال: هي للمؤمنين، أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر .. قال أبو جعفر: وأوْلى الأقوال بالصواب في ذلك أن يُقال: إن الله عز وجل أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه.. ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله".
وفي صلح الحديبية استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو في طريقه لمكة لأداء العمرة ـ قبل عقد هذا الصلح ـ، كما استشار زوجته أم سلمة رضي الله عنها بعد عقد الصلح والمعاهدة مع قريش.
الشورى قبل الصُلح والمعاهدة :
صلح الحديبية هو عهد واتفاق، تم بين المسلمين وقريش في السنة السادسة للهجرة قرب موضع يقال له الحديبية قبيل مكة. ففي ذلك العام رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأنهم يطوفون بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك، ففرحوا فرحاً شديداً، فرؤيا الأنبياء حق، وقد اشتد بهم الحنين إلى الطواف بالكعبة ودخول مكة، موطنهم الأول ومسقط رأسهم.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة من هذه السنة ومعه ألف وأربعمائة من المسلمين، متوجهين إلى مكة لقضاء أول عمرة لهم بعد الهجرة، فلما وصلوا إلى ذي الحليفة (ميقات أهل المدينة ويُعرف الآن بأبيار علي)، أهلَّ النبي صلى الله عليه وسلم مُحْرِمَاً هو ومن معه، وبعث بُسر بن سفيان إلى مكة ليأتيه بأخبار قريش وردود أفعالهم. وحين وصل المسلمون إلى عسفان (مكان بين مكة والمدينة) جاء بُسر رضي الله عنه وأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن قريشاً قد جمعوا له جموعاً، وأنهم مقاتلوه وصادوه ومانعوه عن البيت الحرام، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في ذلك.
عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهَدْي وأشعره (وضع عليها علامة لها أنها من الهدي الذي سيُهدى تقرباً إلى الله تعالى)، وأحرم منها بعمرة، وبعث عيناً (جاسوسا) له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط، أتاه عينه قال: إن قريشاً جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش (أخلاط القبًائل التي حول مكة)، وهم مقاتلوك وَصَادُّوك عن البيت ومانعوك، فقال صلى الله عليه وسلم: أَشِيرُوا أيها الناس عليَّ، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين، وإلا تركناهم محروبين (محزونين مسلوبين أهلهم ومالهم)؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجْتَ عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له فَمَنْ صَدَّنا عنه قاتلناه، قال صلى الله عليه وسلم: امضوا على اسم الله) رواه البخاري.
قال ابن حجر في "فتح الباري": "والمراد أنه صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه: هل يخالف الذين نصروا قريشاً إلى مواضعهم فيسْبي أهلهم، فإن جاؤوا إلى نصرهم اشتغلوا بهم وانفرد هو وأصحابه بقريش؟.. فأشار عليه أبو بكر الصديق بترك القتال، والاستمرار على ما خرج له من العمرة حتى يكون بدء القتال منهم فرجع إلى رأيه".
الشورى بعد عقد الصلح :
قُرْبَ موضع يقال له الحديبية قبيل مكة، أرسلت قريش عروة بن مسعود مندوباً عنها للتفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أرسلت سهيل بن عمرو لعقد الاتفاق والصلح، وقد أسفرت المفاوضات بين النبي صلى الله عليه وسلم ومندوبي قريش عن اتفاق سُمِّيَ في السيرة النبوية بصلح الحديبية، يقضي بهدنة بينهم وترك الحرب عشر سنين، وبعدم دخول المسلمين البيت الحرام من عامهم هذا معتمرين، ثم يأتون العام المقبل لأداء العمرة .. حزن الصحابة رضوان الله عليهم لأنهم كانوا في شوق شديد لدخول مكة وأداء العمرة، وقد خرجوا من المدينة من أجل ذلك، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذبح الهَدْي والحلق ـ لأنهم لن يؤدوا العمرة حسب الصلح والعهد ـ تثاقلوا مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على زوجته أم سلمة رضي الله عنها واستشارها في ذلك.
عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما في قصة صلح الحديبية في حديث طويل، ذكرا فيه: أنه لما تم الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم ومشركي قريش، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: (انحَروا الهَدْيَ واحلِقوا، قال: فواللهِ، ما قام منهم رجلٌ حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يَقُمْ منهم أحدٌ دخل على أمِّ سَلمة، فذَكرَ لها ما لَقِيَ مِن الناس، فقالت أمُّ سلمة: يانبيَّ الله، أَتَحُبُّ ذلك؟ اخرُجْ لا تُكَلِّمْ أحداً منهم كلمة، حتى تَنْحَرَ بُدْنَك، وتَدْعُوَ حالقَك فيَحْلِقك. فخرج فلم يُكَلِّمْ أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحَرَ بُدْنه، ودعا حالِقه فحَلقه، فلما رأَوْا ذلك قاموا فنَحَرُوا وجعَلَ بعضُهم يَحْلِقُ بعضا) رواه البخاري.
توقف الصحابة رضوان الله عليهم بعد الأمر النبوي لهم بالحلق لاحتمال أنّه للندب، أو لرجاء نزول الوحي بإبطال هذا الصلح، وساغ ذلك لهم لأنّه زمان وقوع النسخ.
قال الكرماني في"الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري": "فإن قلتَ: كيف جاز لهم مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلتُ: كانوا ينتظرون أحداث الله لرسوله أمراً خلاف ذلك فيتم لهم قضاء نُسُكِهِم، فلما رأوه جازماً قد فعل النحر والحلق، علموا أنه ليس وراء ذلك غاية تُنْتَظَر فبادروا إلى الائتمار بقوله والائتساء بفعله. وفيه: جواز مشاورة النساء وقبول قولهن إذا كن مصيبات".
وقال القسطلاني: "وفيه فضيلة أم سلمة ووفور عقلها".
لقد كان رأي أم سلمة رضي الله عنها رأياً موفقاً ومشورة مباركة، وفي ذلك دليل على استحسان مشاورة المرأة الفاضلة مادامت ذات فكر صائب ورأي سديد، وفي قبول النبي صلى الله عليه وسلم لمشورة زوجته أم سلمة تكريم للمرأة، وهل هناك تقدير وتكريم للمرأة أكثر من أن تشير على النبي صلى الله عليه وسلم برأي ومشورة في أمر، ويعمل النبي صلى الله عليه وسلم برأيها ومشورتها.
المتأمل في السيرة النبوية يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم رغم علو منزلته عند ربه، وعظم مكانته بين أصحابه، وأنه نبي يوحى إليه، فقد كان كثير التشاور مع أصحابه، بل وحتى مع زوجاته صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: "ما رأيتُ أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وكان أصحابه رضي الله عنهم يبادرونه بالرأي والمشورة. ومن المعلوم أن الشورى تكون في الأمور التي لم يَرِدْ فيها نصٌ شرعي، أما ما ورد فيه نصٌّ مِنْ كتابٍ أو سُنَّة، فليس أمام المسلم سوى القبول والتسليم، قال ابن تيمية في كلامه عن "المشاورة": "وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وليستخرج بها منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي، من أمر الحروب والأمور الجزئية وغير ذلك، فغيره صلى الله عليه وسلم أولى بالمشورة".