الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم

قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم

قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم

في سورة النور، الآية رقم ثلاثين، أمر الله المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار، وحفظ الفروج، فقال جل في علاه: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}(النور:30).
يقول الإمام ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية: قل للمؤمنين يغضوا: "يكفوا من نظرهم إلى ما يشتهون النظر إليه، مما قد نهاهم الله عن النظر إليه ... فإن غضها من النظر عما لا يحلّ النظر إليه، وحفظ الفرج عن أن يظهر لأبصار الناظرين؛ أطهر لهم عند الله وأفضل".
{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} يقول: إن الله ذو خبرة بما تصنعون أيها الناس فيما أمركم به من غض أبصاركم عما أمركم بالغضّ عنه، وحفظ فروجكم عن إظهارها لمن نهاكم عن إظهارها له.

والمتأمل للآية يجد فيها الأمر بغض البصر وعلته وعاقبته وفائدته وما يعود على صاحبه من وراء ذلك.. ثم الترهيب بأن الله محيط بهم مطلع عليهم خبير بصنعهم وكيف ستكون استجابتهم لأمره أو مخالفتهم له.

وغض البصر عن النظر إلى ما حرمه الله بكل أنواعه وأشكاله مأمور به، والغض عن عورات النساء بالنسبة للرجال، وللرجال بالنسبة للنساء هو أكبر مقاصد الآية هنا، وإنما أمر الله به للجنسين لما في ذلك من المصالح الكثيرة والتي جمعها الله تعالى في لفظة جامعة بقوله: {ذلك أزكى لهم}.. وهذه الزكاة والطهارة تشمل الدين والعرض والنفس والقلب والخلق والمروءة وغيرها.

والمؤمنات أيضا
وحتى لا يظن أحد أن الأمر موجه للرجال فقط أتبع الله هذا بالتأكيد بقوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}(النور:31).. فإن ما يعود على المرأة المسلمة من المفاسد بسبب إطلاق البصر، وما يعود عليها من المنافع عند غضه وحفظه هو مما يتشارك فيه الجنسان ويحصله النوعان الرجال والنساء، فأمروا جميعا بذات الأمر.

والآية بلا شك موجهة إلى جميع المؤمنين والمؤمنات، والحديث موجه لجميع الأعمار بإطلاق، ولكن لا شك أن أحوج الناس إلى ذلك هم طائفة الشباب ذكورا وإناثا، وذلك لما فيهم من قوة شهوة، وشدة غلمة، وقابلية للإثارة، وشدة تأثر، وكبير عواقب، أكثر من غيرهم من الشيوخ الكبار أو ممن لم يبلغ حد الشهوة والإثارة.. فكانوا هم أولى الناس باتباع الأمر وطاعة الرب.

فوائد ومنافع غض البصر
وقد تكلم العلماء في فضيلة غض البصر وما يعود على صاحبه من فوائد جمة، ومنافع لا تحصى.. فقالوا: إن من فوائد غض البصر:

أولا: أنه طاعة لله تعالى الكبير المتعال الذي أمر بغض البصر فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} {النور: 30-31}

ثانيا: أنه طاعة لرسول الله صلوات ربي وسلامه عليه القائل: [لا تتبع النظر النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة] (رواه أبو داود والترمذي).

ثالثا: يورث الحكمة والنور والبصيرة في القلب، فمن ترك النظر إلى ما حرم الله بنور عينه عوضه الله تعالى نورا في القلب، فيطلق له نور بصيرته يبصر به الحق من الباطل، {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا}، والجزاء من جنس العمل، ولعل هذا هو السر في ذكر آية غض البصر في سورة النور؛ كما أشار إليه شيخ الإسلام.

رابعا: غض البصر أعظم سبيل لحفظ الفرج، فإن الله تعالى أمر بغض البصر قبل أن يأمر بحفظ الفرج، وتأمل الآية الكريمة {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}.

خامسا: فيه تزكية للنفس وتطهير لها من أوحال الرذيلة؛ ولذا قال تعالى بعد الأمر بغض البصر: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ}.

سادسا: أن في غض البصر شكرا لله تعالى على نعمة البصر، فإن البصر نعمة من الله تعالى؛ كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}{الملك: من الآية23} وحق النعم الشكر عليها، فمن غض بصره فقد شكر الله تعالى حيث لم يستعمل نعمة الله في معصيته.

سابعا: يورث محبة الله تعالى، قال مجاهد: غض البصر عن محارم الله يورث حب الله.

ثامنا: الانتصار على هوى النفس، فإن في غض البصر استعلاء على النفس الأمارة بالسوء، وإغلاقا للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية، ودليلا صادقا على قوة العزيمة.

تاسعا: سلامة القلب من أمراض الشهوات وراحة له مما لا صبر له عليه، ورب نظرة أورثت ذلا في الدنيا وخزيا في الآخرة.
ورحم الله من قال:
كل الحوادث مبدأها من النظر .. .. ومعظم النار من مستصغر الشرر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها .. .. في أعين الغيد موقوف على الخطر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها .. .. فتك الســهام بلا قـوس ولا وتر
يســر ناظــره ما ضــر خاطــره .. .. لا مرحـبا بسرور عاد بالضرر

عاشرا: حفظ المجتمعات من الرذيلة، ومن الانزلاق وراء سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي، وحماية له من الوقوع في حمأة الرذيلة والفاحشة.

الحادي عشر: أن غض البصر من حسن الخلق وأفعال ذوي المروءة، حتى إن أهل الجاهلية كانوا يفتخرون بغض البصر، وقد قال عنترة الجاهلي:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي .. .. حتى يوراي جارتي مأواها

الثاني عشر: أن غض البصر يورث الفراسة، فمن غض بصره وداوم على أكل الحلال لم تكد تخطئ له فراسة. قال بعض السلف: "من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم.. لم تخطئ له فراسة"..؛ لأن التعلق بالصور يوجب فساد العقل، وعمى البصيرة، وسكر القلب والعياذ بالله.

هذه بعض فوائد غض البصر وإلا فهي كثيرة لا تدخل تحت حصر.
هذا ناهيك عن أنه يحفظ العبد من العواقب القبيحة والآثار السيئة المترتبة على إطلاقه.. وهو ما يستحق أن يفرد له مؤلفات ومقالات.
أسأل الله أن يحفظ جميع المسلمين وشبابهم من كل سوء، وأن ويرزقهم الإيمان والتقوى.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة