الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دروس في طريق عودة النبي من خيبر

دروس في طريق عودة النبي من خيبر

دروس في طريق عودة النبي من خيبر

السيرة النبوية بأحداثها وتفاصيلها ومواقفها مدرسة نبويّة متكاملة، لما تحمله بين ثناياها من دروس تربوية، وأحكام شرعية.. ومن فوائد دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم معرفة أحواله وأخلاقه وشمائله، وقد جمعت السيرة النبوية حياة النبي صلى الله عليه وسلم وغزواته ومواقفه والأحداث التي مرت به ـ صغيرها وكبيرها ـ، والتي من خلالها يتحول الحَدَثُ والموقف إلى درس وعِبرة، ويستنبط منه العلماء الاحكام الشرعية والحِكم التربوية، ومن ذلك ما حدث له صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من غزوة خيبر ووقوعه هو وزوجته أم المؤمنين صفية رضي الله عنها مِن على دابته.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أنه أقبل هو وأبو طلحة (من غزوة خيبر) مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم صفية (زوجته)، مُردِفُها على راحلته (ناقته)، فلما كانوا ببعض الطريق عثرت الناقة فصُرِع (وقع) النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمرأة، وإن أبا طلحة ـ قال: أحسب (أظن) قال ـ اقتحم عن بعيره (رمى بنفسه عنه) فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله جعلني الله فداءك، هل أصابك من شيء؟ قال: لا، ولكن عليك بالمرأة، فألقى أبو طلحة ثوبه على وجهه فقصد قصدها فألقى ثوبه عليها (ليسترها)، فقامت المرأة، فشد لهما على راحلتهما فركِبا (النبي عليه الصلاة والسلام وصفية)، فساروا حتى إذا كانوا بظهرِ المدينة، أو قال: أشرَفوا على المدينة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: آيِبونَ تائِبونَ عابِدون، لربِّنا حامِدون، فلم يَزَلْ يقولها حتى دخل المدينة) رواه البخاري. وفي رواية أخرى للبخاري: (فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنها أُمُّكم).
قال القسطلاني: "(عليك بالمرأة) أي: الزم المرأة، (فقلب) أبو طلحة، (ثوبًا على وجهه) حتى لا ينظر إلى صفية، (وأتاها فألقاها) أي: الخميصة التي ألقاها على وجهه المسماة بالثوب، ولأبي ذر فألقاه أي: الثوب، (عليها) أي على صفية فسترها عن الأعين (وأصلح لهما مركبهما) بفتح الكاف (فركبا واكتنفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أحطنا به، (فلما أشرفنا) أي اطّلعنا، (على المدينة قال) عليه الصلاة والسلام: نحن (آيبون)، راجعون إلى الله نحن (تائبون)، إليه نحن (عابدون لربنا)، نحن (حامدون) .. (فلم يزل يقول ذلك حتى دخل المدينة) شكرًا لله تعالى وتعليمًا لأمته".
وقال ابن حجر في "فتح الباري": "وفي الحديث: أنه لا بأس للرجل أن يتدارك المرأة الأجنبية إذا سقطت أو كادت تسقط فيعينها على التخلص مما يخشى عليها".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة رضي الله عنه: (ولكن عليك بالمرأة) يبين كيف كان اهتمامه صلوات الله وسلامه عليه بزوجته صفية أكثر من اهتمامه بنفسه، فقد وجه أبا طلحة رضي الله عنه للعناية والاهتمام بزوجته صفية رضي الله عنها قبله..وقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه هيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ركوب الراحلة هو وصفية رضي الله عنها فيقول: (ثم يجلس صلى الله عليه وسلم عند بعيره فيضع ركبته فتضع صفيه رجلها على ركبته حتى تركب)، وفي ذلك درس واضح ومعنى جميل في مدى اهتمامه ولطفه ووده ورفقه صلوات الله وسلامه عليه بزوجته، وأنه صلى الله عليه وسلم ـ وهو نبي الله ـ لا يُنْقِص من قدره أن يتواضع لزوجته ويعينها، ويدخل عليها السرور ويسعدها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) رواه الترمذي وصححه الألباني.

آيِبونَ تائِبونَ عابِدون، لربِّنا حامِدون:

مِنْ هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم عند رجوعه من السفر وهو على مشارف بلده قول: (آيِبونَ تائِبونَ عابِدون، لربِّنا حامِدون)، ففي الموقف والحديث النبوي السابق الذي رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر، يقول: (.. فساروا حتى إذا كانوا بظهرِ المدينة، أو قال: أشرَفوا على المدينة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: آيِبونَ تائِبونَ عابِدون، لربِّنا حامِدون، فلم يَزَلْ يقولها حتى دخل المدينة). وفي رواية مسلم قال أنس: (أقبلنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنا وأبو طلحةَ، وصفية رديفتُه (خلفه) على ناقته، حتى إذا كنا بظهرِ المدينة قال: آيبونَ تائبونَ عابدون، لربنا حامدون، فلم يزل يقول ذلك حتى قدمنا المدينة). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيرِه خارجاً إلى سفر، كبَّر ثلاثاً، ثم قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}(الزُّخرف: 14:13)، اللهم! إنا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتقوى، ومن العملِ ما ترضى، اللهم! هوِّنْ علينا سفرنا هذا، واطوِ عنا بُعْدَه، اللهم! أنتَ الصاحبُ في السفر، والخليفةُ في الأهل، اللهم! إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب، في المال والأهل، وإذا رجع قالهنَّ، وزاد فيهنَّ: آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون) رواه مسلم. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون): تذكير للنفس بالعبودية لله تعالى، وأنها ستموت، وترجع إلى ربها سبحانه، قال العيني: "وفيه: حمْدُ الله للمسافر عند إتيانه سالماً إلى أهله، وسؤاله الله التوبة". ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يكن يشغله ـ في سفر ولا حضر ـ شَيءٌ عَنْ ذِكْر الله تعالى، وله في كل حال ذِكْر لله عز وجل، وقد ثبت عنه صلوات الله وسلامه عليه جملة من الأذكار والأدعية التي يقولها المسافر، وتكون بإذن الله سبباً في حفظه وتوفيقه.

السيرة النبوية هي سيرة وحياة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي عصمه وحفظه ربه سبحانه، وهي النموذج العملي التطبيقي الذي وضعه الله عز وجل للناس لكي يقتدوا به ويتبعوه. والمسلم في كل موقفٍ وحَدَثٍ في حياته يجد في سيرة وهَدْي النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}(النور:54)، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة}(الأحزاب: 21)، قال ابن كثير: "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة