الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قد أفلح من زكاها

قد أفلح من زكاها

قد أفلح من زكاها

أقسم الله سبحانه وتعالى في سورة الشمس بعدد من مخلوقاته الدالة على عظمته أن أصل الفلاح في تزكية النفس وأساس الخيبة في تدسيتها {قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها}.
وأصل الزكاة: هي الزيادة في الخير، والسعي في إصلاح النفس، وسُمُوها بالاستكثار من الطاعات والخيرات، والابتعاد عن الشرور والسيئات.
وأصل التدسية: هو الإخفاء، فالعاصي قد أخفى نفسهُ الكريمة بفعل الآثام، وطمرها وقمعها بالرذائل والخسائس.
والنفوسُ الشريفةُ لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوسُ الدنيئةُ تحومُ حول الدناءات، وتقعُ عليها كما يقعُ الذبابُ على الأقذار.
ولما كانت تزكية النفس بهذه الأهمية وجب على كل مسلم ناصح لنفسه أن يُعنى بها عناية فائقة، وأن يُجاهد نفسهُ في حياته على تحقيق هذه الغاية الحميدة؛ ليُفلح في دُنياهُ وأُخراه، وينعم بالسعادة الحقيقية.

قواعد في تزكية النفس
وسنحاول هنا أن نذكر بعض القواعد المهمة، التي تُعين المسلم على تزكية نفسه وتنميتها، وتطهيرها من كُل ما يُدنسها ويشينُها:
أولا: تصحيح التوحيد أصل التزكية
فهو الغاية التي من أجلها خلقنا الله وأوجدنا: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(الذاريات:56)، وهو محور دعوة الأنبياء والرسل، وهو أعظم ما يزكي به الإنسان نفسه ويطهرها، كما أن الشرك هو أعظم ما يدنس النفوس ويقمعها ويقمؤها.

قال تعالى: {... وويل للمشركين . الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون}(فصلت:7، 8).
قال ابنُ تيمية (مجموع الفتاوى 10/97) عن معنى الزكاة في الآية: "هي التوحيد والإيمان الذي به يزكو القلب؛ فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب، وإثبات إلهية الحق في القلب، وهو حقيقة لا إله إلا الله، وهذا أصل ما تزكو به القلوب".
وقال ابن القيم (إغاثة اللهفان 1/79): "قال أكثر المفسرين من السلف ومن بعدهم: هي التوحيد؛ شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان الذي به يزكو القلبُ.. وهو أصلُ كُل زكاة ونماء".
فإذا حقق العبدُ التوحيد حصلت له الزكاة الكاملة، وحصلت له الهدايةُ والأمنُ التامان في الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}(الأنعام:82).

ثانيا: الدعاء مفتاح التزكية

قال شيخ الإسلام: "الدعاء مفتاح لك خير".
فإن النفوس والقلوب بيد الله عز وجل يزكي من يشاء منها، فالأمر كله له وتحت مشيئته؛ كما قال سبحانه: {بل الله يزكي من يشاء}(النساء:49)، وقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ}(النور:21).
قال ابن عباس {ما زكى منكم من أحد}: أي ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء من الخير ينفع به نفسه، ولم يتق شيئا من الشر يدفعه عن نفسه". (تفسير الطبري: 17/222).

وفي الصحيحين عن البراء بن عازب: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معنا التراب، ولقد وارى التراب بياض بطنه، وهو يقول: والله لولا الله ما اهتدينا .. ولا تصدقنا ولا صلينا".
فإذا كانت الهداية والزكاة بيد الله وجب أن تطلب منه، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)(رواه مسلم).

ثالثا: القرآن منبع التزكية ومعينها
فالقرآن كما قال تعالى عنه: {يهدي للتي هي أقوم}، وقال: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}.
قال ابن القيم: "القرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة"(زاد المعاد:4/ 119).

ومعلوم أن الانتفاع الكامل بالقرآن والذي تحصل به التزكية المرجوة هو تلاوته حق التلاوة، بأن يتدبر كلامه، وتفهم معانيه، ومجاهدة النفس للعمل بما فيه.
قال ابن عباس رضي الله عنه: "تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه، ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى}. "مصنف ابن أبي شيبة".

رابعا: التأسي بالرسول
قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}(الأحزاب:21).

وقد بين القرآن الكريم أن طريق محبة الله هو اتباع الرسول صلوات الله عليه وسلامه في أقواله وأفعاله وأحواله {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(آل عمران:31).

قال ابن القيم: " فالرسُلُ هم أطباءُ القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم، وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم)(مدارج السالكين:2/ 300).
قال الإمام سفيان بن عُيينة: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر، فعليه تُعرضُ الأشياء؛ على خُلُقه، وسيرته وهديه، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل"(الجامع لأخلاق الراوي والسامع: 1/ 79).
ومن ثم وجب على من أراد تزكية نفسه أن يُجاهدها على الاتباع والاقتداء والتأسي بالرسول صلوات الله وسلامه عليه، وأن يحذر المحدثات والمخترعات والطرائق المبتدعات التي لم ينزل الله بها من سلطان.

خامسا: الذنوب أصل الفساد
فاصل التزكية تطهير النفس وتنقيتها وحمايتها من المخالفة، والمعاصي تفسد القلب وتحجب عنه أنوار الهداية والتوفيق، وتثقل عن الطاعات والعبادات التي هي أصل التزكية.. قال ابن عباس: "إن للمعصية ظلمة في القلب، وسوادا في الوجه، وقلة في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق".

فأصل التزكية تخلية وتحلية.. تخلية عن الموبقات والسيئات والمخالفات، وتحلية بالطاعات والعبادات والقربات.

قال شيخ الإسلام: "فالتزكية وإن كان أصلها النماء والبركةُ وزيادةُ الخير، فإنما تحصُلُ بإزالة الشر؛ فلهذا صار التزكي يجمعُ هذا وهذا"(الفتاوى 10/97).

سابعا: كثرة ذكر الموت
قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هاذم اللذات)(رواه ابن حبان)
ولما سئل أي الناس أكيس؟ قال: (أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم له استعدادا)(رواه ابن ماجه وحسنه ابن حجر والألباني).

ذلك أن ذكر الموت فيه منفعة عظيمة لصاحبه، فبه تستيقظ النفوس الغافلة، وتحيا القلوب الميتة، ويحسن الإنسان الإقبال على الله، وتزول الغفلة والإعراض عن طاعة الله.

قال سعيد بن جبير: "لو فارق ذكر الموت قلبي خشيت أن يفسد علي قلبي"(الزهد للإمام أحمد).

فذكر الموت يقصر الآمال، ويدعو إلى المسارعة في التوبة والأعمال، ونسيان الموت يطيل الأمل، ويقود إلى التسويف في التوبة والعمل..
قال علي بن أبي طالب رضي الله: "أيها الناسُ، إن أخوف ما أخافُ عليكم طُول الأمل، واتباع الهوى؛ فأما طُولُ الأمل فيُنسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيُضل عن الحق".

ثامنا: الرفقة المعينة
فطريق السير إلى الله شاق وطويل وفيه عقبات، ويحتاج المرء من يعينه ويتعاون معه على الخير، وتلقي العلم والأدب، وييسر له العبادة فإن المواساة مما يعين على تحمل المشاق.. ولهذا أمر الله نبيه بقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}(الكهف:28).
قال السعدي في تفسير الآية: "فيها الأمر بصبحة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم ومخالطتهم، وإن كانوا فقراء، فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى"(تفسير السعدي547).

وقال القاضي في شرحه لحديث مثل الجليس الصالح وجليس السوء:
"فيه تجنب خلطاء السوء ومجالسة الأشرار، وأهل البدع والمغتابين للناس؛ لأن جميع هؤلاء ينفذ أثرهم إلى جليسهم، والحض على مجالسة أهل الخير وتلقي العلم والأدب وحسن الهدي والأخلاق الحميدة" (شرح القاضي على مسلم 8/108).
فعلى العبد تخير الجلساء الذين يعينونه على الخير؛ فإنهم من أعظم أسباب تزكية نفسه وصلاحها، وأن يحذر خُلطاء الشر وجُلساء الفساد؛ فإنهم أخطرُ عليه من الجرب.

تاسعا: إياك والعجب
أصل الضياع "الإعجاب بالنفس"، والمعجب بنفسه مخذول غير موفق، ثم إن الله تعالى وحده هو أعلم بالصالحين والمتقين وأصحاب النفوس الزاكيات قال تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}(النجم:32).

وأهل الإيمان يرون أنفسهم دائما في حاجة إلى الزيادة، ومهما بلغ العبد من مقامات الدين يبقى مقصرا في حق أرحم الراحمين، ولذلك لما سأل أبو بكر رسول الله عن دعاء يدعو به قال قل: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)(متفق عليه).
فإذا كان هذا يقال لأبي بكر وهو من هو، فكيف بمن دونه؟

ثم إن القبول على الله، فمهما اجتهد الإنسان في العبادة وتدرج في منازلها فإنه لا يدري أقبل الله منه أم لا.. وأهل التقوى دائما على وجل وخوف من الرد وعدم القبول، وقد وصفهم الله بهذا في كتابه فقال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}(المؤمنون:60).
وعندما سألت أم المؤمنين عائشة رسول الله عنهم وقالت: "أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال صلى الله عليه وسلم: (لا يا بنتَ الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا تقبل منهم)(رواه الترمذي وصححه الألباني).

وقال عبد الله بن أبي مُليكة: "أدركتُ أكثر من ثلاثين صحابيًّا كلهم يخاف النفاق على نفسه" (البخاري).
وقال الحسن البصري: "المؤمن جمع إحسانا وشفقة، والمنافقُ جمع إساءة وأمنا، ثم تلا {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون... الآيات ".

عاشرا: دوام محاسبة النفس
بأن يتصفح الإنسان عمله، وينظر في أقواله وأفعاله وجميع ما يصدر منه أولا بأول.. فإن وجد خيرا محمودا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن وجده شرا مذموما استدركه إن أمكن، وتاب منه واستغفر، وانتهى عن مثله في المستقبل.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الحشر:18).

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا".

قال الحسن: "لا تلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه، لماذا فعلت كذا؟ ماذا تريد من كذا؟"
يقول ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقياً حتى يحاسب نفسه كما يحاسب الشريك الشحيح شريكه: من أين مطعمه وملبسه؟".
فالمحاسبة تمنع العبد من الاستطالة في الغفلة، والجرأة على المعصية، وتوقفه سريعا وتعيده إلى الطريق القويم والصراط المستقيم..

فمن أراد تزكية نفسه فليلزم باب المحاسبة. فـ (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)(واه الترمذي وحسنه).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة