
الموت حقيقة واقعة لا يُنْكِرها مؤمن ولا كافر، وقد كتبه الله عز وجل على جميع خَلقه، ولم يَستَثْنِ مِنْ ذلك أحداً، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}(آل عمران:185). قال ابن كثير: "يخبر تعالى إخبارا عاما يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت، كقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت والإنس والجِنّ يموتون، وكذلك الملائكة وحَملة العرش، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء"..
والله عز وجل قدَّرَ الموتَ على بني آدم جميعا، وجعَل له أسبابًا، فإذا حان الأجَل، وأراد الله تعالى لِعَبْدٍ مِنْ عباده أن يموت في وقته المُحدَّد، وبأرضٍ مُحَدَّدة ليس هو فيها، جعل الله له إلى هذه الأرض حاجة وأمْراً يريده ويطلبه، فإذا ذهب إلى حاجته في هذه الأرض توفاه الله تعالى بها، فما قدَّرَه الله عز وجل وكتبه لا بد أن يقع كما قدَّره، وهذا مِن الإيمان بالقضاء والقدر..
عن يسار بن عبد الله الْهُذَلِيّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضَى اللهُ لعبدٍ أن يموتَ بأرضٍ جعلَ له إليها حاجة. أو قال: بها حاجة) رواه الترمذي.
يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله عز وجل إذا أراد وقَدَّر لعبدٍ أنْ يَموتَ وتَكونَ نِهاية أجَلِه في الدُّنيا بمكان مُعيَّنٍ وهو غير موجودٍ فيه، جعل وأظهر له في هذا المكان حاجة، فيذهب العبد لهذا المكان ليقضي حاجته وطلبه فيُقْبَض ويموت فيها..
قال الهروي: "(إذا قضى الله) أي: أراد، أو قدَّر، أو حكم (لعبد أن يموت بأرض): وهو في غيرها (جعل) أي: أظهر الله (له إليها حاجة) أي: فيأتيها، ويموت فيها إشارة إلى قوله تعالى {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}(لقمان: 34) رواه أحمد والترمذي".
وقال المباركفوري في "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": "(إذا قَضَى الله) أي أراد أو قدَّر أو حكم في الأزل (جعل) أي أظهر الله (له إليها حاجة) أي ليسافر إليها فيتوفاه الله بها ويُدْفَن فيها إشارة إلى قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}(لقمان:34). وفي الحديث دليل على سَبْق القضاء والقدر".
وقال المُظْهِري في" المفاتيح في شرح المصابيح": "(إذا قضى الله لعبد أن يموتَ بأرضٍ جعل له إليها حاجةً) يعني: إذا كان الرجلُ في بلدةٍ وقدّر أن يموت في بلدٍ آخر أوقع الله تعالى في قلبه ميلاً إلى قصد ذلك البلد، أو أَظهر له إليه حاجةً من تجارةٍ أو زيارةٍ أو ما أشبه ذلك، ليأتيَ ذلك البلدَ ليموتَ فيه، يعني: كل شيء يكون كما قدَّره الله تعالى، لا يَقْدِر أحدٌ أنْ يُغيرَه".
وقال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(لقمان:34): "قال قتادة: أشياء اسْتَأثر اللَّهُ بِهِنَّ، فَلَمْ يُطلع عَلَيْهِنَّ مَلَكا مُقَرَّبًا، ولا نبِيًّا مُرْسَلًا {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فلا يَدْرِي أَحَدٌ مِنَ الناس متى تقوم الساعة (يوم القيامة)، في أَيّ سَنة أَوْ في أَيِّ شَهْر، أوْ لَيْلٍ أَوْ نهار، {وَيُنزلُ الْغَيْثَ} فلا يعلم أَحَد متى يَنْزِل الْغَيْث، ليْلًا أَوْ نهارا، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ} فلا يعلم أَحَدٌ ما في الْأَرحام، أَذَكُرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَحْمَر أوْ أَسْوَد؟ وما هُو؟ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} أَخَيْرٌ أَمْ شَر؟ ولا تدري يا ابْن آدم متى تموت؟ لعَلَّك الْمَيِّت غَدًا، لَعَلَّك الْمُصاب غدا، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} لَيْس أَحَد مِنَ الناس يَدْرِي أَيْن مَضْجعه مِنَ الْأَرض، أَفِي بَحْرٍ أَمْ بَرٍّ، أَوْ سَهْلٍ أَوْ جَبَل؟ وقَدْ جاء في الحديث: (إِذَا أَرَادَ اللَّهُ قبض عبد بأرض، جعل له إليها حاجة).. وقال ابْن أَبِي الدُّنْيا: حدثني سليمان بن أَبي مَسِيح قال: أَنْشَدني مُحَمَّد بن الحكم لِأَعْشى هَمْدان:
وَكُلّ مَنْ ظَنّ أَنَّ الموتَ يُخْطِئه مُعَلَّلٌ بأعَاليل مِنَ الحَمق
بأيّمَا بَلْدَة تُقْدَر مَنِيَّتُهُ إنْ لَا يُسَيَّرْ إلَيها طَائعًا يُسَق".
وقال الطبري: "{وَما تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْض تَمُوتُ} يقول: وما تعلم نَفْس حيّ بأيّ أرض تكون منيتها {إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} يقول: إن الذي يعلم ذلك كله هو الله دون كلّ أحد سواه، إنه ذو علم بكلّ شيء، لا يخفى عليه شيء، خبير بما هو كائن، وما قد كان"..
فائدة:
الإيمان بالقدر يعني: التصديق الجازم بأنّ كل خير أو شر فهو بقدر الله عز وجل، وأنه سبحانه الفعّال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا مَحيد لأحدٍ عنِ القدر المقدور، قال الله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}(الأحزاب:38). قال ابن كثير: "أي: وكان أمره الذي يقدره كائنا لا محالة، وواقعا لا مَحيد عنه ولا مَعْدِل، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن". وقد بينت لنا السُنة النبوية أنه لا يتم إيمان عَبْد إلا الإيمان بالقدر، وأنه ـ القدر ـ رُكْن مِنْ أركان الإيمان الستة التي جاءت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدَر خيره وشره). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه) رواه الترمذي.
قال ابن حجر: "(وتؤمن بالقدر خيره وشره).. والمراد أن الله تعالى عَلِم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل مُحْدَث صادر عن علمه وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف مِنَ الصحابة وخيار التابعين". وقد أجمع المسلمون على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره. قال النووي في "شرح صحيح مسلم": "وقد تظاهرت الأدلة القطعية مِن الكتاب والسُنة وإجماع الصحابة وأهل الحِلِّ والعَقْد (العلماء والفضلاء الذين يرجع النّاس إليهم) مِنَ السلف والخلف على إثبات قَدَر الله تعالى".
وقد نهانا نبينا صلى الله عليه وسلم عن الخوض في القدر فقال: (وإذا ذُكِر القدر فأمسكوا) رواه الطبراني. قال ابن تيمية: "الخوض في ذلك - أي في القضاء والقدر - بغير علم تام، أوجب ضلال عامة الأمم، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التنازع فيه". وقال أحمد بن حنبل: "مِنَ السُّنَّة اللازمة التي مَنْ ترك منها خصلة لم يقُلْها ويؤمِنْ بها لم يكُنْ مِنْ أهلِها: الإيمان بالقَدَرِ خيرِه وشَرِّه، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يقالُ: لِمَ؟ ولا: كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها". وقال أبو جعفر الطحاوي في "شرح العقيدة الطحاوية": "وأصل القَدر سر الله تعالى في خَلْقِه، لم يُطلع على ذلك مَلَكٌ مُقرَّب، ولا نبي مُرْسَل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر مِنْ ذلك نظراً وفِكْراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه (خلقه)، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(الأنبياء:23)"..
وسبب موت كل إنسان ومكان وفاته كلاهما قد قدّره الله تعالى وكتبه متى وأين، وما يجري في هذا الكون كله هو بتقدير الله تعالى وإرادته، قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(لقمان:34). قال السعدي: "{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} مِنْ كسب دينها ودنياها، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} بل الله تعالى، هو المختص بعلم ذلك جميعه"..
مِنْ فوائد حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد اللهُ قَبض عبدٍ بأرضٍ جعَل له بها حاجة): إثبات مشيئة وإرادة الله عز وجل النافذة، وقدرته الشاملة، على الوجه اللائق به سبحانه، فالله عز وجل لا مثيل له في ربوبيته، ولا مثيل له في إلهيته، ولا مثيل له في أسمائه وصفاته، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الشورى:11). قال القرطبي: "والذي يُعْتقد في هذا الباب أن الله جلَّ اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحُسْنى أسمائه وعَليِّ صفاته، لا يشبه شيئا مِنْ مخلوقاته ولا يُشبه به {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}". وقال ابن عبد البر: "أهل السُنة مُجْمِعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها". وقال ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية": "ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، مِنْ غير تحريف ولا تعطيل، ومِنْ غير تكييف ولا تمثيل. يثبتون له الأسماء والصفات"..
ومِن فوائد الحديث: تنبيه العبد على التيقظ للموت، والاستعداد له بالطاعة، فإنه لا يدري متى وأين سيكون موته.. وفيه: أنَّ كلَّ شيءٍ بقَدَر الله عز وجل. قال المناوي في "فيض القدير شرح الجامع الصغير": "(إذا قضى الله تعالى) أي أراد وقدَّر في الأزل (لعبد) من عباده (أن يموت بأرض) وليس هو فيها (جعل له إليها حاجة) زاد في رواية الحاكم: (فإذا بلغ أقصى أثره توفاه الله بها، فتقول الأرض يوم القيامة: يا رب هذا ما استودعتني (أي: هذا ما جعَلتَه وَديعةً مَحفوظةً عِندي)). قال القرطبي: قال العلماء وهذا تنبيه للعبد على التيقظ للموت والاستعداد له بالطاعة والخروج مِن المظالم وقضاء الدين والوصية بماله وعليه في الحضر فضلا عن الخروج إلى سفره، فإنه لا يدري أين كُتِبت منيّته (وفاته) مِنَ البِقاع"..