عندما بزغ فجر الدولة العباسية، لم يكن التغيير مقتصرًا على السياسة وحدها، ولا على انتقال السلطة من الأمويين إلى بني العباس، بل تجاوز ذلك إلى مجالات أوسع، إلى الفكر، والعلم، واللغة، والفنون والأدب، وفي القلب منها الشعر.
لقد وجد الشعر العربي نفسه في بيئة جديدة، تتسع فيها الدنيا بما حوته من ترف العمران ورخاء المعاش، وتتلاقح فيها الثقافات، والحضارات القادمة من فارس والهند واليونان.
وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا التحول الحضاري على بنية الشعر نفسه، فظهر ما اصطلح النقاد على تسميته بشعر المولَّدين، وهو اللون الذي جمع بين الأصول العربية الأصيلة، وروح الحضارة العباسية المنفتحة على الآخر.
لقد كان الشعر الجاهلي مدرسة متفردة لها نظامها المحكم؛ ألفاظ فصيحة جزلاء، معانٍ قريبة مألوفة، هندسة للشطرين، التزام بالقافية، ورصانة في الأوزان والإيقاعات، تلك القواعد لم تكن مدونة في كتب، بل تناقلتها الألسن وورثتها الأجيال، حتى صارت السليقة الشعرية عند العرب هي وحدها القانون الحاكم.
وحين انتقل العرب من حياة الصحراء إلى حياة الحاضرة، وامتدت أياديهم إلى خزائن الأمم بعد الفتوحات، وازدحمت عواصمهم بمظاهر الحضارة، أخذ الشعر يتبدل شيئًا فشيئًا، حتى جاء العصر العباسي ففجر هذا التغيير تفجيرًا كاملًا.
بغداد تلك المدينة التي بناها المنصور، لم تكن عاصمة سياسية وحسب، بل كانت رمزًا لتحول ثقافي عظيم؛ فيها التقت الألسن، والثقافات، وتداخلت الآداب، وأخذ الشعراء يشاهدون من جمال العمران، وخصب السنين، وثراء المجالس ما لم تعرفه البادية يومًا.
والإنسان ابن بيئته، فإذا كانت البيئة مترفة رقّت النفس، ولانت الألفاظ، وازداد الخيال ألقاً، وهكذا وجد شعراء العباسيين أنفسهم أمام عالم أرحب من عالم الجاهليين، والأمويين، فانسابت ألسنتهم برقة في القول، وسهولة في العبارة، وعذوبة في النغم، وتفننوا في الصور والمعاني، فكان شعرهم انعكاسًا لترف عصرهم.
ولم يكن للشعراء الموالي شأن يُذكر في صدر الإسلام، إذ بقيت السيادة للأدب العربي الصرف، لكن حين جاءت الدولة العباسية، تكاثر هؤلاء ونبغوا، حتى تقلدوا زعامة الشعر، وأصبحوا هم أصحاب الكلمة المؤثرة.
كان المولدون بطبيعتهم مستقلين عن تقليد العرب في أساليبهم البدوية، وأقرب إلى التحضر والرقة، فكان لهم فضل كبير في تجديد الألفاظ، والمعاني، وفي إدخال روح جديدة على الشعر، وهنا وُلدت مدرسة المولَّدين، التي جمعت بين الفصاحة العربية من جهة، وبين مرونة الحضارة المترفة من جهة أخرى.
ولم يكن تجديدهم شكليًا فحسب، بل طال الأوزان والأساليب، فقد أضافوا أنماطًا جديدة كالموشح، والدوبيت، والسلاسل، وتفننوا في التصرف بالشعر: تخميسًا وتشطيرًا، وتزيينًا، بالمحسنات البديعية.
وهكذا أصبح الشعر لوحة فنية مزخرفة، فيها رقة وسهولة، وفيها مجاز وكناية وتشبيه يلامس الخيال أحيانًا، ويلتصق بالواقع أحيانًا أخرى، صحيح أن بعضهم بالغ حتى صارت المحسنات عنده غاية لا وسيلة، فانتهى شعره إلى صورة مزركشة تخفي خواء المعنى، لكن ذلك لم يمنع مدرسة المولدين من أن تكون منعطفًا فارقًا في مسيرة الأدب العربي.
وكانت مجالس الشعر في قصور الخلفاء العباسيين أحد أهم مظاهر ازدهار هذا الفن وتجديده، ففي تلك المجالس، حيث السمر، والأنس، كان الخلفاء يجمعون حولهم خيرة الشعراء، والندماء، ومتذوقي الأدب، فيتحلقون حول المنصور، والرشيد، والمأمون، ومن جاء بعدهم، ينشدون الشعر في المدح، والغزل، والوصف، والهجاء، ويتبارون في ارتجال القصائد، ورصف الألفاظ.
وقد تحولت هذه المجالس إلى ساحات منافسة شعرية، يعلو فيها صوت من يحسن السبك، ويخبو فيها ذكر من يعجز عن التصوير والابتكار، وفيها أيضًا ارتقت ذائقة الخلفاء، فصاروا يميّزون بين رقيق الشعر وجزله، وبين بديعه ومبتذله، فيكافئون هذا بعطاء جزيل، ويعرضون عن ذاك بخيبة وخسران.
وكان الشعراء يعرفون أن الكلمة في تلك المجالس قد تُثري صاحبها إلى حد الرفاه، أو تهوي به إلى قاع النسيان، فشدّ ذلك من هممهم ودفعهم إلى ابتكار أساليب جديدة يدهشون بها الحاضرين.
ولم يقتصر أثر هذه المجالس على الشعراء وحدهم، بل انعكس على حركة الأدب كلها، إذ جعلت الشعر مطلبًا اجتماعيًا وثقافيًا، ووسيلة للتأثير والجاه، ونافذة للخلود، ومن هنا ازدادت الرقة في أشعار المولَّدين، وتكاثرت الصور البلاغية، وغلبت روح التأنق والترف على معانيهم.
ومن يقرأ أسماء كبار شعراء العباسيين يدرك حجم الإضافة التي جاء بها هذا اللون من الشعر: من بشار بن برد، وأبي نواس، إلى مسلم بن الوليد وأبي العتاهية، ثم إلى أبي تمام والبحتري وابن الرومي والمتنبي، وصولًا إلى أبي العلاء المعري، والشريف الرضي، وأبي فراس الحمداني وغيرهم، كل واحد من هؤلاء شكّل حلقة في سلسلة ذهبية تمتد عبر القرون، وتبرهن على أن الشعر العربي لم يفقد أصالته حين تماهى مع الحضارة، بل بالعكس: زاد عمقًا وغنى، وأصبح أوسع أفقًا في معانيه وصوره.
غير أن الزمن لا يبقي الأشياء على حالها؛ فقد استمر الشعر قويًا حتى القرن الثالث الهجري، ثم أخذت قوته تخبو شيئًا فشيئًا، حتى آل في بعض مراحله إلى ضعف يقترب من النثر، وظهر المتكسبون، والمتبذلون ممن باعوا الكلمة في سوق المدح والهجاء، وأسرفوا في الزخرفة حتى فقد الشعر سلطانه القديم على النفوس، ومع ذلك، بقيت آثار المولدين حية في الذاكرة الأدبية، وبقيت بصماتهم واضحة في تطور القصيدة حتى العصور المتأخرة.
إن شعر المولدين لم يكن خروجًا عن التراث العربي، بقدر ما كان استجابة طبيعية لتحولات المجتمع الإسلامي في أوج حضارته، فإذا كان الشعر الجاهلي قد عبّر عن نقاء العروبة الأولى، فإن شعر العباسيين قد عبّر عن صورة الإسلام وهو يتسع ليضم أممًا وشعوبًا وحضارات، لقد كان ذلك الشعر "إسلاميًا بلغة عربية"، لأنه لم يعد عربيًا خالصًا، لكنه ظل وفيًّا للسان العرب الذي احتضنه، وأضاف إليه ثراءً لا يزول.
وبهذا يكون شعر المولدين شاهدًا خالدًا على قدرة اللغة العربية على التجدّد، وعلى طواعية الشعر للتلون بألوان العصور، إنه برهان على أن الكلمة حين تخرج من رحم الحضارة لا تموت، بل تكتسب حياة جديدة، تليق بعصرها وتبقى أثرًا خالدًا للأجيال.
فتاوى الحج
مقالات الحج
تسجيلات الحج
استشارات الحج






