المسألة الثامنة : في  أقل الجمع   
اختلفوا في أقل الجمع ، وليس النزاع في لفظ الجمع المركب من الجيم ، والميم ، والعين ، كما ذكر ذلك  إمام الحرمين الجويني ، وإلكيا الهراس ، وسليم الرازي  فإن ( جمع ) موضوعها يقتضي ضم شيء إلى شيء ، وذلك حاصل في الاثنين ، والثلاثة ، وما زاد على ذلك بلا خلاف . 
قال   سليم الرازي     : بل قد يقع على الواحد ، كما يقال : جمعت الثوب بعضه إلى بعض ، قال   الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني     : لفظ الجمع في اللغة له معنيان ، الجمع من حيث الفعل المشتق منه ، الذي هو مصدر جمع يجمع جمعا ، والجمع الذي هو لقب ، وهو اسم العدد ، قال : وبعض من لم يهتد إلى هذا الفرق خلط الباب ، فظن أن الجمع الذي هو بمعنى اللقب من جملة الجمع الذي هو بمعنى الفعل ، فقال : إذا كان الجمع بمعنى الضم ، فالواحد إذا أضيف إلى الواحد فقد جمع بينهما ، فوجب أن يكون جمعا ، وثبت أن الاثنين أقل الجمع ، وخالف بهذا القول جميع أهل اللغة ، وسائر أهل العلم .  
وذكر   إمام الحرمين الجويني  أن الخلاف ليس في مدلول مثل قوله  فقد صغت قلوبكما   وقول القائل ضربت رءوس الرجلين ، وقطعت بطونهما ، بل الخلاف في الصيغ الموضوعة للجمع سواء كان للسلامة أو للتكسير ، وذكر مثل هذا  الأستاذ أبو منصور  ،   والغزالي     .  
إذا عرفت هذا ، ففي أقل الجمع مذاهب :  
 [ ص: 363 ] الأول : أن أقله اثنان ، وهو المروي عن  عمر  ،   وزيد بن ثابت  ، وحكاه  عبد الوهاب  عن  الأشعري  ،   وابن الماجشون     .  
قال  الباجي     : وهو قول   القاضي أبي بكر بن العربي  ، وحكاه  ابن خويز منداد  ، عن  مالك  ، واختاره  الباجي  ، ونقله صاحب  المصادر  عن  القاضي أبي يوسف  ، وحكاه  الأستاذ أبو منصور  عن أهل الظاهر ، وحكاه   ابن الدهان النحوي  عن   محمد بن داود  ،  وأبي يوسف  ،  والخليل  ،  ونفطويه     .  
قال : وسأل   سيبويه  الخليل  ، فقال : الاثنان جمع .  
وعن  ثعلب  أن التثنية جمع عند أهل اللغة ، واختاره   الغزالي     .  
واستدلوا بقوله سبحانه  قالوا ياموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة      ; لأنهم طلبوا إلها مع الله ، ثم قالوا : كما لهم آلهة ، فدل على أنه إذا صار لهم إلهان صاروا بمنزلة الآلهة .  
واستدلوا أيضا بقوله تعالى :  فإن كان له إخوة   فأطلق الإخوة ، والمراد أخوان فما فوقهما إجماعا .  
وأجيب : بأن ورود ذلك للاثنين مجاز ، كما يدل على ذلك ما روي  عن   ابن عباس  أنه قال  لعثمان     : ليس الأخوان إخوة في لسان قومك ، فقال  عثمان     : لا أنقض أمرا كان قبلي وتوارثه الناس  ، أخرجه   ابن خزيمة  ،  والحاكم  ، وصححه ،  وابن   [ ص: 364 ] عبد البر  ،  والبيهقي  فلم ينكر ذلك  عثمان  ، بل عدل إلى التأويل ، وهو الحمل على خلاف الظاهر بالإجماع .  
وبمثل هذا يجاب عما استدلوا به من قوله تعالى :  إنا معكم مستمعون   ، والمراد  موسى   ،  وهارون      .  
وأيضا قد قيل بمنع كون المراد  موسى   ،  وهارون   فقط بل هما مع  فرعون     .  
وأما استدلالهم بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال  الاثنان فما فوقهما جماعة  فهو استدلال خارج عن محل النزاع ; لأنه لم يقل : الاثنان فما فوقهما جمع ، بل قال جماعة ، يعني أنهما تنعقد بهما صلاة الجماعة .  
المذهب الثاني : أن أقل الجمع ثلاثة ، وبه قال الجمهور ، وحكاه   ابن الدهان النحوي  عن جمهور النحاة ، وقال   ابن خروف  في شرح كتاب   سيبويه     : إنه مذهب   سيبويه  ، وهذا هو القول الحق الذي عليه أهل اللغة ، والشرع ، وهو السابق إلى الفهم عند إطلاق الجمع ، والسبق     [ ص: 365 ] دليل الحقيقة ، ولم يتمسك من خالفه بشيء يصلح للاستدلال به .  
المذهب الثالث : أن أقل الجمع واحد ، هكذا حكاه بعض أهل الأصول ، وأخذه من كلام   إمام الحرمين  ، وقد ذكر  ابن فارس  في فقه العربية صحة إطلاق الجمع ، وإرادة الواحد ، ومثله قوله تعالى :  فناظرة بم يرجع المرسلون   وهو واحد بدليل قوله  فلما جاء سليمان   ، قال   الزمخشري  في قوله  كذبت قوم نوح المرسلين   المراد بالمرسلين  نوح   ، قال   القفال الشاشي  في كتابه في الأصول بعد ذكر الأدلة ، وقد يستوي حكم التثنية ، وما دونها بدليل كالمخاطب للواحد بلفظ الجمع في قوله  قال رب ارجعون   ،  وإنا له لحافظون   ، وقد تقول العرب للواحد : افعلا ، افعلوا ، وهو ظاهر في أن ذلك مجاز ، وظاهر كلام   الغزالي  أنه مجاز بالاتفاق ، وذكر  المازري  أن  القاضي أبا بكر  حكى الاتفاق على أنه مجاز ، ولم يأت من ذهب إلى أنه حقيقة بشيء يعتد به أصلا بل جاء باستعمالات وقعت في الكتاب العزيز ، وفي كلام العرب خارجة على طريقة المجاز ، كما تقدم ، وليس النزاع في جواز التجوز بلفظ الجمع عن الواحد أو الاثنين ، بل النزاع في كون ذلك معناه حقيقة .  
المذهب الرابع : الوقف ، حكاه  الأصفهاني  في شرح  المحصول  عن   الآمدي  ، قال  الزركشي  ، وفي ثبوته نظر ، وإنما أشعر به كلام   الآمدي  فإنه قال في آخر المسألة ، وإذا عرف مأخذ الجمع من الجانبين ، فعلى الناظر الاجتهاد في الترجيح ، وإلا فالوقف لازم . هذا كلام ومجرد هذا لا يكفي في حكايته مذهبا . انتهى .  
ولا يخفاك أن هذا الموطن ليس من مواطن الوقف ، فإن موطنه إذا توازنت الأدلة موازنة يصعب الترجيح بينها ، وأما مثل هذه المسألة فلم يأت من خالف الجمهور بشيء يصدق عليه اسم الدليل ، فضلا عن أن يكون صالحا لموازنة ما يخالفه .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					