الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المبحث الثاني

                        [ في حمل المطلق على المقيد ]

                        اعلم أن الخطاب إذا ورد لا ( مقيد له ) حمل على إطلاقه ، وإن ورد مقيدا حمل على تقييده ، وإن ورد مطلقا في موضع مقيدا في موضع آخر ، فذلك على أقسام :

                        ( الأول ) : أن يختلفا في السبب والحكم ، فلا يحمل أحدهما على الآخر بالاتفاق ، كما حكاه القاضي أبو بكر الباقلاني ، وإمام الحرمين الجويني ، وإلكيا الهراس ، وابن برهان ، والآمدي وغيرهم .

                        ( القسم الثاني ) : أن يتفقا في السبب والحكم ، فيحمل أحدهما على الآخر ، كما لو قال : إن ظاهرت فأعتق رقبة .

                        وقال في موضع آخر : إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة وقد نقل الاتفاق في هذا القسم القاضي أبو بكر الباقلاني ، والقاضي عبد الوهاب ، وابن فورك ، وإلكيا الطبري وغيرهم .

                        وقال ابن برهان في الأوسط : اختلف أصحاب أبي حنيفة في هذا القسم ، فذهب [ ص: 479 ] بعضهم إلى أنه لا يحمل ، والصحيح من مذهبهم أنه يحمل ، ونقل أبو زيد الحنفي وأبو منصور الماتريدي في تفسيره : أن أبا حنيفة يقول بالحمل في هذه الصورة ، وحكى الطرسوسي الخلاف فيه عن المالكية ، وبعض الحنابلة ، وفيه نظر ، فإن من جملة من نقل الاتفاق القاضي عبد الوهاب وهو من المالكية .

                        ثم بعد الاتفاق المذكور وقع الخلاف بين المتفقين ، فرجح ابن الحاجب وغيره أن هذا الحمل هو بيان للمطلق ، أي دال على أن المراد بالمطلق هو المقيد ، وقيل : إنه يكون نسخا ، أي دالا على نسخ حكم المطلق السابق بحكم المقيد اللاحق ، والأول أولى وظاهر إطلاقهم أنه لا فرق في هذا القسم بين أن يكون المطلق متقدما أو متأخرا ، أو جهل السابق ، فإنه يتعين الحمل ، كما حكاه الزركشي .

                        ( القسم الثالث ) : أن يختلفا في السبب دون الحكم ، كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار ، وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل ، فالحكم واحد وهو وجوب الإعتاق في الظهار والقتل ، مع كون الظهار والقتل سببين مختلفين ، فهذا القسم هو موضع الخلاف : فذهب كافة الحنفية إلى عدم جواز التقييد ، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن أكثر المالكية .

                        وذهب جمهور الشافعية إلى التقييد .

                        وذهب جماعة من محققي الشافعية إلى أنه يجوز تقييد المطلق بالقياس على ذلك المقيد ، ولا يدعى وجوب هذا القياس بل يدعى أنه إن حصل القياس الصحيح ثبت التقييد وإلا فلا .

                        قال الرازي في المحصول : " وهو القول المعتدل ، قال : واعلم أن صحة هذا القول إنما تثبت إذا أفسدنا القولين الأولين ، أما الأول - يعني مذهب جمهور الشافعية - فضعيف جدا لأن الشارع لو قال : أوجبت في كفارة القتل رقبة مؤمنة ، وأوجبت في كفارة الظهار رقبة كيف كانت ، لم يكن أحد الكلامين مناقضا للآخر ، فعلمنا أن تقييد أحدهما [ ص: 480 ] لا يقتضي تقييد الآخر لفظا .

                        وقد احتجوا بأن القرآن كالكلمة الواحدة ، وبأن الشهادة لما قيدت بالعدالة مرة واحدة ، وأطلقت في سائر الصور ، حملنا المطلق على المقيد فكذا هاهنا .

                        والجواب عن الأول : بأن القرآن كالكلمة الواحدة في أنها لا تتناقض لا في كل شيء وإلا وجب أن يتقيد كل عام ومطلق بكل خاص ومقيد .

                        وعن الثاني : أنا إنما قيدناه بالإجماع ، وأما القول الثاني - يعني مذهب الحنفية - فضعيف ; لأن دليل القياس وهو أن العمل به دفع للضرر المظنون - عام في كل الصور . انتهى .

                        قال إمام الحرمين الجويني في دفع ما قالوه من أن كلام الله في حكم الخطاب الواحد : إن هذا الاستدلال من فنون الهذيان ، فإن قضايا الألفاظ في كتاب الله مختلفة متباينة لبعضها حكم التعلق والاختصاص ، ولبعضها حكم الاستقلال والانقطاع ، فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد ، مع العلم بأن كتاب الله فيه النفي والإثبات ، والأمر والزجر ، والأحكام المتغايرة ، قد ادعى أمرا عظيما . انتهى .

                        ولا يخفاك أن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضي حصول التناسب بينهما بجهة الحمل ، ولا نحتاج في مثل ذلك إلى هذا الاستدلال البعيد ، فالحق ما ذهب إليه القائلون بالحمل .

                        وفي المسألة مذهب رابع لبعض الشافعية ، وهو أن حكم المطلق بعد المقيد من جنسه موقوف على الدليل ، فإن قام الدليل على تقييده قيد ، وإن لم يقم الدليل صار كالذي لم يرد فيه نص ، فيعدل عنه إلى غيره من الأدلة .

                        قال الزركشي : وهذا أفسد المذاهب ; لأن النصوص المحتملة يكون الاجتهاد فيها عائدا إليها ، ولا يعدل إلى غيره .

                        وفي المسألة مذهب خامس ، وهو أن يعتبر أغلظ الحكمين في ( المطلق و ) المقيد ، فإن كان حكم المقيد أغلظ حمل المطلق على المقيد .

                        [ ص: 481 ] ولا يحمل على إطلاقه إلا بدليل ; لأن التغليظ إلزام ، وما تضمنه الإلزام لا يسقط التزامه باحتمال .

                        قال الماوردي : وهذا أولى المذاهب . قلت بل هو أبعدها من الصواب .

                        ( القسم الرابع ) : أن يختلفا في الحكم نحو اكس يتيما ، أطعم يتيما عالما ، فلا خلاف في أنه لا يحمل أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه ، سواء كانا مثبتين أو منفيين أو مختلفين ، اتحد سببهما أو اختلف . وحكى الإجماع جماعة من المحققين آخرهم ابن الحاجب .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية