[ ص: 223 ] المسألة الأولى  
اختلفوا في جواز  التقليد في المسائل الأصولية المتعلقة بالاعتقاد في وجود الله تعالى   ، وما يجوز عليه ، وما لا يجوز عليه ، وما يجب له ، وما يستحيل عليه .  
فذهب  عبيد الله بن الحسن العنبري  [1] ،  والحشوية   [2] ، إلى جوازه ، وربما قال بعضهم : إنه الواجب على المكلف ، وإن النظر في ذلك والاجتهاد فيه حرام .  
وذهب الباقون إلى المنع منه ، وهو المختار لوجوه :  
الأول : أن النظر واجب ، وفي التقليد ترك الواجب فلا يجوز ، ودليل وجوبه أنه لما نزل قوله تعالى : (  إن في خلق السماوات والأرض      ) الآية ، قال - عليه السلام - : "  ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتفكر فيها     "  [3] توعد على ترك النظر والتفكر فيها ، فدل على وجوبه .  
الثاني : أن الإجماع من السلف منعقد على وجوب معرفة الله تعالى ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، فالتقليد إما أن يقال : إنه محصل للمعرفة أو غير محصل لها ، القول بأنه محصل للمعرفة ممتنع لوجوه :  
الأول : أن المفتي بذلك غير معصوم ، ومن لا يكون معصوما ولا يكون خبره واجب الصدق ، وما لا يكون واجب الصدق فخبره لا يفيد العلم .  
الثاني : أنه لو كان التقليد يفيد العلم لكان العلم حاصلا لمن قلد في حدوث      [ ص: 224 ] العالم ، ولمن قلد في قدمه وهو محال ؛ لإفضائه إلى الجمع بين كون العالم حادثا وقديما .  
الثالث : أنه لو كان التقليد مفيدا للعمل فالعلم بذلك إما أن يكون ضروريا أو نظريا ، لا جائز أن يكون ضروريا ، وإلا لما خالف فيه أكثر العقلاء ، ولأنه لو خلا الإنسان ودواعي نفسه من مبدأ نشئه لم يجد ذلك من نفسه أصلا ، والأصل عدم الدليل المفضي إليه ، فمن ادعاه لا بد له من بيانه .  
الوجه الثالث من الوجوه الأول : أن التقليد مذموم شرعا ، فلا يكون جائزا ، غير أنا خالفنا ذلك في وجوب اتباع العامي للمجتهد ، وفيما ذكرناه من الصور فيما سبق لقيام الدليل على ذلك ، والأصل عدم الدليل الموجب للاتباع فيما نحن فيه ، فنبقى على مقتضى الأصل ، وبيان ذم التقليد قوله تعالى حكاية عن قوم : (  إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون      ) ذكر ذلك في معرض الذم لهم .  
فإن قيل : ما ذكرتموه معارض من وجوه :  
الأول : أن النظر غير واجب لوجوه :  
الأول : أنه منهي عنه ، ودليل النهي عنه الكتاب والسنة .  
أما الكتاب فقوله تعالى : (  ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا      ) والنظر يفضي إلى فتح باب الجدال ، فكان منهيا عنه .  
وأما السنة : فما روي عن النبي - عليه السلام -  أنه نهى الصحابة لما رآهم يتكلمون في مسألة القدر وقال : " إنما هلك من كان قبلكم لخوضهم في هذا     "  [4] ، وقال - عليه السلام - : "  عليكم بدين العجائز     "  [5] وهو ترك النظر ، ولو كان النظر واجبا لما كان منهيا عنه .  
 [ ص: 225 ] الثاني : أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة الخوض والنظر في المسائل الكلامية مطلقا ، ولو وجد ذلك منهم لنقل كما نقل عنهم النظر في المسائل الفقهية ، ولو كان النظر في ذلك واجبا لكانوا أولى بالمحافظة عليه .  
الثالث : أنه لم ينقل عن النبي - عليه السلام - ولا عن أحد من الصحابة والتابعين إلى زمننا هذا الإنكار على من كان في زمانهم من العوام ، ومن ليس له أهلية النظر على ترك النظر ، مع أنهم أكثر الخلق ، بل كانوا حاكمين بإسلامهم مقرين لهم على ما هم عليه .  
الرابع : لو كان النظر في معرفة الله تعالى واجبا ، فإما أن يجب على العارف ، أو على غير العارف ؛ الأول : محال ؛ لما فيه من تحصيل .  
والثاني : يلزم منه أن يكون الجهل بالله تعالى واجبا ، ضرورة توقف النظر الواجب عليه ، وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ولأنه يلزم منه توقف معرفة إيجاب الله تعالى على معرفة ذاته ، ومعرفة ذاته على النظر المتوقف على إيجابه وهو دور .  
المعارضة الثانية : أن النظر مظنة الوقوع في الشبهات واضطراب الآراء والخروج إلى الضلال ، بخلاف التقليد ، فكان سلوك ما هو أقرب إلى السلامة أولى ، ولهذا صادفنا أكثر الخلق على ذلك ، فكان أولى بالاتباع .  
الثالثة : أن أدلة الأصول فيما يرجع إلى الغموض والخفاء أشد من أدلة الفروع ، فإذا جاز التقليد في الفروع مع سهولة أدلتها ، دفعا للحرج ، فلأن يجوز ذلك في الأصول أولى .  
الرابعة : أن الأصول والفروع قد استويا في التكليف بهما ، وقد جاز التقليد في الفروع فكذلك في الأصول .  
والجواب عن المعارضة الأولى بمنع النهي عن النظر ، وأما الآية فالمراد بها إنما هو الجدال بالباطل على ما قال تعالى : (  وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق      ) دون الجدال بالحق ، ودليله قوله تعالى : (  وجادلهم بالتي هي أحسن      ) ، وقوله تعالى : (  ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن      )      [ ص: 226 ] ولو كان الجدال بالحق منهيا عنه لما كان مأمورا به ، ثم كيف يكون النظر منهيا عنه وقد أثنى الله تعالى على الناظرين بقوله تعالى : (  ويتفكرون في خلق السماوات والأرض      )  
أورد ذلك في معرض الثناء والمدح ، والمنهي عنه لا يكون ممدوحا عليه ، وبه يخرج الجواب عن نهيه عن النظر في القدر .  
وقوله - عليه السلام - : "  عليكم بدين العجائز     " لم يثبت ولم يصح  [6] ، وإن صح فيجب حمله على التفويض إلى الله تعالى فيما قضاه وأمضاه ، جمعا بينه وبين ما ذكرناه من الأدلة .  
قولهم : ( لم ينقل عن أحد من الصحابة النظر في ذلك ) يلزم منه نسبة الصحابة إلى الجهل بمعرفة الله تعالى مع كون الواحد منا عالما بذلك ، وهو محال ، وإذا كانوا عالمين بذلك فليس العلم بذلك من الضروريات ، فتعين إسناده إلى النظر والدليل ، وإنما لم تنقل عنهم المناظرة في ذلك لصفاء أذهانهم وصحة عقائدهم وعدم من يحوجهم إلى ذلك ، وحيث نقل عنهم ذلك في مسائل الفروع فلكونها اجتهادية ، والظنون فيها متفاوتة بخلاف المسائل القطعية .  
[7] قولهم : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة لم ينكروا على العامة ترك النظر .  
 [ ص: 227 ] قلنا : إنما لم ينكروا ذلك ؛ لأن المعرفة الواجبة كانت حاصلة لهم ، وهي المعرفة بالدليل من جهة الجملة لا من جهة التفصيل .  
قولهم : ( إن وجوب النظر يلزم منه وجوب الجهل بالله تعالى ) إنما يلزم ذلك أن لو كان الجهل مقدورا للعبد ، وهو غير مسلم .  
قولهم : ( يلزم منه الدور ) لا نسلم ذلك ، فإن الواجب الشرعي عندنا غير متوقف على النظر ، كما سبق في مسألة شكر المنعم .  
قولهم : ( إن النظر مظنة الوقوع في الشبهات والتردي في الضلالات )  
قلنا : فاعتقاد من يقلده إما أن يكون عن تقليد أو نظر ، ضرورة امتناع كونه ضروريا ، فإن كان الأول : فالكلام فيمن قلده كالكلام فيه ، وهو تسلسل ممتنع .  
وإن كان الثاني : فالمحذور اللازم من النظر لازم في التقليد مع زيادة ، وهو احتمال كذب من قلده فيما أخبره به ، بخلاف الناظر مع نفسه ، فإنه لا يكابر نفسه فيما أدى إليه نظره .  
قولهم : إن التقليد عليه الأكثر والسواد الأعظم .  
قلنا : ذلك لا يدل على أنه أقرب إلى السلامة ؛ لأن التقليد في العقائد المضلة أكثر من الصحيحة على ما قال تعالى : (  وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله      ) ، وقال تعالى : (  وقليل ما هم      ) ، وقال - عليه السلام - : "  تفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة ، واحدة ناجية والباقي في النار     " وإنما كان ذلك ؛ لأن أدلة الحق دقيقة غامضة لا يطلع عليها سوى أصحاب الأذهان الصافية والعقول الراجحة ، مع المبالغة في الجد والاجتهاد ، وذلك مما يندر ويقل وقوعه .  
[8]  [ ص: 228 ] قولهم : ( إن أدلة الأصول أخفى فكان التقليد فيها أولى من الفروع ) ليس كذلك ، فإن المطلوب في الأصول القطع واليقين ، وذلك بخلاف الفروع ، فإن المطلوب فيها الظن وهو حاصل من التقليد ، فلا يلزم من جواز التقليد في الفروع جوازه في الأصول .  
[9] وبه يكون الجواب عن المعارضة الأخيرة أيضا .  
				
						
						
