الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          وأما الترجيحات العائدة إلى صفة العلة :

          فالأول منها : أنه إذا كانت علة الأصل في أحد القياسين حكما شرعيا ، وفي الآخر وصفا حقيقيا ، فما علته وصف حقيقي أولى لوقوع الاتفاق عليه ، ووقوع الخلاف في مقابله ، فكانت أغلب على الظن .

          الثاني : أن تكون علة الحكم الثبوتي في أحدهما وصفا وجوديا وفي الآخر وصفا عدميا ، فما علته ثبوتية أولى للاتفاق عليه ووقوع الخلاف في مقابله .

          الثالث : أن تكون علة أحدهما بمعنى الباعث ، وفي الآخر بمعنى الأمارة ، فما علته باعثة أولى للاتفاق عليه .

          الرابع : أن تكون علة أحدهما وصفا ظاهرا منضبطا وفي الآخر بخلافه ، فما علته مضبوطة أولى ؛ لأنه أغلب على الظن لظهوره ولبعده عن الخلاف .

          الخامس : أن تكون علة أحدهما وصفا متحدا وفي الآخر ذات أوصاف ، فما علته ذات وصف واحد أولى ؛ لأنه أقرب إلى الضبط وأبعد عن الخلاف .

          السادس : أن تكون علة أحدهما أكثر تعدية من علة الآخر ، فهو أولى لكثرة فائدته .

          [ ص: 274 ] السابع : أن تكون علة أحدهما مطردة بخلاف الآخر ، فما علته مطردة أولى لسلامتها عن المفسد وبعدها عن الخلاف . وفي معنى هذا أن تكون علة أحدهما غير منكسرة بخلاف علة الآخر ، فما علته غير منكسرة أولى لبعدها عن الخلاف .

          الثامن : أن تكون علة أحدهما منعكسة بخلاف علة الآخر ، فما علته منعكسة أولى ؛ لأنها أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف .

          التاسع : أن تكون علة أحدهما غير متأخرة عن الحكم بخلاف الآخر ، فما علته غير متأخرة أولى لبعده عن الخلاف .

          العاشر : أن تكون علة أحدهما غير منعكسة وعلة الآخر منعكسة غير مطردة ، فالمطردة أولى ؛ لما بيناه من اشتراط الاطراد وعدم اشتراط الانعكاس ، ولهذا فإن من سلم اشتراط الاطراد خالف في اشتراط الانعكاس .

          الحادي عشر : أن يكون ضابط الحكمة في علة أحد القياسين جامعا للحكمة مانعا لها ، بخلاف ضابط حكمة العلة في القياس الآخر كما بيناه ، فالجامع المانع أولى لزيادة ضبطه وبعده عن الخلاف .

          الثاني عشر : أن تكون العلة في أحدهما غير راجعة على الحكم الذي استنبطت منه برفعه أو رفع بعضه بخلاف الآخر ، فهو أولى لسلامة علته عما يوهيها وبعدها عن الخلاف .

          الثالث عشر : أن تكون علة أحد القياسين مناسبة وعلة الآخر شبهية ، فما علته مناسبة أولى لزيادة غلبة الظن بها وزيادة مصلحتها وبعدها عن الخلاف .

          الرابع عشر : أن يكون المقصود من إحدى العلتين من المقاصد الضرورية كما بيناه من قبل ، والمقصود من العلة الأخرى غير ضروري ، فما مقصوده من الحاجات الضرورية أولى لزيادة مصلحته وغلبة الظن به ، ولهذا فإنه لم تخل شريعة عن مراعاته ، وبولغ في حفظه بشرع أبلغ العقوبات .

          الخامس عشر : أن يكون مقصود إحدى العلتين من الحاجات الزائدة ومقصود الأخرى من باب التحسينات والتزيينات ، فما مقصوده من باب الحاجات الزائدة أولى لتعلق الحاجة به دون مقابله .

          [ ص: 275 ] السادس عشر : أن يكون مقصود إحدى العلتين من مكملات المصالح الضرورية ، ومقصود الأخرى من أصول الحاجات الزائدة ، فما مقصوده من مكملات الضروريات وإن كان تابعا لها ومقابله أصل في نفسه يكون أولى ؛ ولهذا أعطي حكم أصله حتى شرع في شرب قليل الخمر ما شرع في كثيره .

          السابع عشر : أن يكون مقصود إحدى العلتين حفظ أصل الدين ومقصود الأخرى ما سواه من المقاصد الضرورية [1] ، فما مقصوده حفظ أصل الدين يكون أولى نظرا إلى مقصوده وثمرته من نيل السعادة الأبدية في جوار رب العالمين ، وما سواه من حفظ الأنفس والعقل والمال وغيره فإنما كان مقصودا من أجله على ما قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )

          فإن قيل : بل ما يفضي إلى حفظ مقصود النفس أولى وأرجح ، وذلك لأن مقصود الدين حق الله تعالى ومقصود غيره حق للآدمي ، وحق الآدمي مرجح على حقوق الله تعالى لأنها مبنية على الشح والمضايقة ، وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة من جهة أن الله تعالى لا يتضرر بفوات حقه ، فالمحافظة عليه أولى من المحافظة على حق لا يتضرر مستحقه بفواته ، ولهذا رجحنا حقوق الآدمي على حق الله تعالى بدليل أنه لو ازدحم حق الله تعالى وحق الآدمي في محل واحد ، وضاق عن استيفائهما بأن يكون قد كفر وقتل عمدا عدوانا نقتله قصاصا لا بكفره .

          وأيضا قد رجحنا مصلحة النفس على مصلحة الدين ، حيث خففنا عن المسافر بإسقاط الركعتين وأداء الصوم ، وعن المريض بترك الصلاة قائما وترك أداء الصوم ، وقدمنا مصلحة النفس على مصلحة الصلاة في صورة إنجاء الغريق ، وأبلغ من ذلك أنا رجحنا مصلحة المال على مصلحة الدين حيث جوزنا ترك الجمعة والجماعة ضرورة حفظ أدنى شيء من المال ، ورجحنا مصالح المسلمين المتعلقة ببقاء الذمي بين أظهرهم على مصلحة الدين حتى عصمنا دمه وماله مع وجود الكفر المبيح .

          قلنا : أما النفس فكما هي متعلق حق الآدمي بالنظر إلى بعض الأحكام ، فهي متعلق حق الله تعالى بالنظر إلى أحكام أخر ، ولهذا يحرم عليه قتل نفسه والتصرف [ ص: 276 ] بما يفضي إلى تفويتها ، فالتقديم إنما هو لمتعلق الحقين ولا يمتنع تقديم حق الله وحق الآدمي على ما تمحض حقا لله .

          كيف وأن مقصود الدين متحقق بأصل شرعية القتل وقد تحقق ، والقتل إنما هو لتحقيق الوعيد به ، والمقصود بالقصاص إنما هو التشفي والانتقام ، ولا يحصل ذلك للوارث بشرع القتل دون القتل بالفعل على ما يشهد به العرف ، فكان الجمع بين الحقين أولى من تضييع أحدهما .

          كيف وأن تقديم حق الآدمي هاهنا لا يفضي إلى تفويت حق الله فيما يتعلق بالعقوبة البدنية مطلقا ؛ لبقاء العقوبة الأخروية ، وتقديم حق الله مما يفضي إلى فوات حق الآدمي من العقوبات البدنية مطلقا ، فكان ذلك أولى .

          وأما التخفيف عن المسافر والمريض فليس تقديما لمقصود النفس على مقصود أصل الدين بل على فروعه ، وفروع أصل غير أصل الشيء ، ثم وإن كان فمشقة الركعتين في السفر تقوم مقام مشقة الأربع في الحضر ، وكذلك صلاة المريض قاعدا بالنسبة إلى صلاته قائما وهو صحيح ، فالمقصود لا يختلف .

          وأما أداء الصوم فلأنه لا يفوت مطلقا ، بل يفوت إلى خلف وهو القضاء ، وبه يندفع ما ذكروه من صورة إنقاذ الغريق وترك الجمعة والجماعة لحفظ المال أيضا ، وبقاء الذمي بين أظهر المسلمين معصوم الدم والمال ليس لمصلحة المسلمين بل لأجل اطلاعه على محاسن الشريعة وقواعد الدين ؛ ليسهل انقياده ويتيسر استرشاده ، وذلك من مصلحة الدين لا من مصلحة غيره .

          وكما أن مقصود الدين مقدم على غيره من مقاصد الضروريات ، فكذلك ما يتعلق به من مقصود النفس يكون مقدما على غيره من المقاصد الضرورية .

          أما بالنظر إلى حفظ النسب ؛ فلأن حفظ النسب إنما كان مقصودا لأجل حفظ الولد حتى لا يبقى ضائعا لا مربي له ، فلم يكن مطلوبا لعينه ( بل لإفضائه إلى النفس ، وأما بالنظر إلى المال ، فلهذا المعنى أيضا فإنه فلم يكن بقاؤه مطلوبا لعينه ) وذاته ، بل لأجل بقاء النفس مرفهة منعمة حتى تأتي بوظائف التكاليف وأعباء العبادات .

          وأما بالنظر إلى حفظ العقل فمن جهة أن النفس أصل والعقل تبع ، فالمحافظة على الأصل أولى ، ولأن ما يفضي إلى فوات النفس على تقدير أفضليته يفوتها مطلقا ، وما يفضي إلى تفويت العقل كشرب المسكر لا يفضي إلى فواته مطلقا .

          [ ص: 277 ] فالمحافظة بالمنع مما يفضي إلى الفوات مطلقا أولى ، وعلى هذا أيضا يكون المقصود في حفظ النسب أولى من المقصود في حفظ العقل والمال لكونه عائدا إلى حفظ النفس ، وما يفضي إلى حفظ العقل مقدم على ما يفضي إلى حفظ المال ؛ لكونه مركب الأمانة وملاك التكليف ومطلوبا للعبادة بنفسه من غير واسطة ولا كذلك المال ، ولهذا كانت هذه الرتب مختلفة في العقوبات المرتبة عليها على نحو اختلافها في أنفسها ، وبمثل تفاوت هذه الرتب يكون التفاوت بين مكملاتها .

          الثامن عشر : أن يكون الوصف الجامع في أحد القياسين نفس علة حكم الأصل والآخر دليل علة الأصل وملازمها ، فالذي فيه الجامع نفس العلة أولى لظهورها وركون النفس إليها .

          التاسع عشر : أن تكون علة الأصل في أحد القياسين ملائمة وعلة الآخر غريبة ، فما علته ملائمة أولى ؛ لأنها أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف .

          العشرون : أن تكون علة الأصلين منقوضة إلا أنه قد ظهر في صورة النقض في أحدهما ما يمكن عليه إحالة النقض من وجود مانع أو فوات شرط بخلاف الأخرى ، فهي أولى ؛ لأنها أغلب على الظن .

          الحادي والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين قد يتخلف عنها مدلولها في صورة بطريق الاستثناء على خلاف القاعدة العامة والأخرى يتخلف عنها حكمها لا على جهة الاستثناء ، فالتي يتخلف عنها حكمها بجهة الاستثناء تكون أولى لقربها إلى الصحة وبعدها عن الخلاف .

          الثاني والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين قد خلفها في صورة النقض ما هو أليق بها لكون مناسبتها فيها أشد ، كما ذكرناه فيما تقدم ، بخلاف الأخرى فهي أولى لتبين عدم إلغائها بخلاف الأخرى .

          الثالث والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين لا مزاحم لها في أصلها بخلاف الأخرى ، فالتي لا مزاحم لها أولى لأنها أغلب على الظن وأقرب إلى التعدية ، وعلى هذا يكون ما رجحانها على مزاحمها أكثر مقدمة أيضا .

          [ ص: 278 ] الرابع والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين مقتضية للإثبات والأخرى مقتضية للنفي ، فالنافية تكون أولى ؛ لأن مقتضاها يتم على تقدير رجحانها وعلى تقدير مساواتها ، ومقتضى المثبتة لا يتم إلا على تقدير رجحانها ، وما يتم مطلوبه على تقدير من تقديرين يكون أغلب على الظن مما لا يتم مطلوبه إلا على تقدير واحد معين .

          فإن قيل : إلا أن العلة المثبتة مقتضاها حكم شرعي بالاتفاق بخلاف النافية ، وما فائدتها شرعية بالاتفاق تكون أولى .

          وأيضا فإنه يجب اعتقاد اختصاص أصل النافية بمعنى لا وجود له في الفرع تقليلا لمخالفة الدليل ، كيف وأن ما ذكرتموه من الترجيح للنافية غير مستقيم على رأي من يعتقد التخيير عند تساوي الدليلين المتعارضين ، وعلى هذا فيتساوى القدمان .

          قلنا : أما كون حكم إحدى العلتين شرعي [2] فلا يرجح به ؛ لأن الحكم إنما كان مطلوبا لا لنفسه بل لما يفضي إليه من الحكم به ، والشارع كما يود تحصيل الحكمة بواسطة ثبوت الحكم يود تحصيلها بواسطة نفيه .

          كيف وأن العلة النافية متأيدة بالنفي الأصلي والمثبتة على خلافه فكانت أولى .

          وما قيل من وجوب اعتقاد اختصاص النافية بمعنى في الأصل لا وجود له في الفرع فهو معارض بمثله في المثبتة ، وأنه يجب اعتقاد اختصاص أصلها بمعنى لا وجود له في الفرع تقليلا لمخالفة الدليل النافي ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، والتخيير وإن كان مقولا به عند تعارض الدليلين مع التساوي من كل وجه فليس إلا على بعض الآراء الشاذة بالنسبة إلى ما قابله .

          كيف وأن الحكم إنما يثبت لما يصلح أن يكون مقصودا ، وإثبات الحكم عند التعارض من كل وجه لتحصيل مصلحة على وجه يلزم منه مفسدة مساوية لا يصلح أن يكون مقصودا ، فالحكم يكون منتفيا لانتفاء مقصوده .

          [ ص: 279 ] الخامس والعشرون : أن تكون حكمة إحدى العلتين قد اختلت احتمالا لمانع أخل بها دون الأخرى ، فالتي لا يختل حكمها احتمالا أولى لقربها إلى الظن وبعدها عن الخلل والخلاف .

          السادس والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين أفضى إلى تحصيل مقصودها من الأخرى فتكون أولى لزيادة مناسبتها بسبب ذلك .

          السابع والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين مشيرة إلى نقيض المطلوب ومناسبة له من وجه بخلاف الأخرى ، فما لا تكون مناسبة لنقيض المطلوب تكون أولى لكونها أظهر في إفضائها إلى حكمها وأغلب على الظن وأبعد عن الاضطراب .

          الثامن والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين متضمنة لمقصود يعم جميع المكلفين والأخرى متضمنة لمقصود يرجع إلى آحادهم ، فالأولى أولى لعموم فائدتها .

          التاسع والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين أكثر شمولا لمواقع الخلاف من الأخرى ، فتكون أولى لعموم فائدتها .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية