الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
أنبأنا محمد بن المهاجر ، حدثنا محمد بن عبد الله السويدي، قال: سمعت العباس بن ميمون يقول: شيع المأمون ، الحسن بن سهل ذا الوزارتين، فلما بلغا غاية التشييع، قال له المأمون: يا حسن، ألك حاجة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، تحفظ علي من قلبك ما لا أستطيع إدراكه إلا بك، ويكون بيني وبينك قول كثير عزة:


وكوني على الواشين لداء شغبة كما أنا للواشي ألد شغوب



أخبرنا محمد بن سعيد القزاز ، حدثنا محمد بن خزيمة البصري ، حدثنا حذيفة ، حدثنا عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، قال: "الذي يعمله النمام في ساعة لا يعمله الساحر في شهر".

أخبرنا محمد بن عثمان العقبي ، حدثنا محمد بن الحسن الهلالي ، حدثنا أبو عوانة البصري ، حدثنا داود بن شبيب، حدثنا حماد بن سلمة، قال: باع رجل من رجل غلاما له، وقال: أبرأ إليك من النميمة، فاشتراه على ذلك، فجاء إلى مولاته، فقال: إن زوجك ليس يحبك، وهو يتسرى عليك، ويتزوج، أفتريدين أن يعطف عليك؟ قالت: نعم، قال: خذي موسى فاحلقي به شعرات من باطن لحيته، وبخريه بها، وجاء إلى الرجل، فقال: إن امرأتك تبغي، وتصادق، وهي قاتلتك، أفتريد أن يبين لك ذلك؟ قال: نعم، قال: تناوم لها، قال: فتناوم لها [ ص: 180 ] فجاءت بموسى تحلق الشعر، فأخذها، فقتلها، فأخذه أولياؤها، فقتلوه.

قال أبو حاتم - رضي الله عنه - : هذا وأمثاله من ثمرة النميمة؛ لأنها تهتك الأستار، وتفشي الأسرار، وتورث الضغائن، وترفع المودة، وتجدد العداوة، وتبدد الجماعة، وتهيج الحقد، وتزيد الصد، فمن وشي إليه عن أخ كان الواجب عليه معاتبته على الهفوة إن كانت، وقبول العذر إذا اعتذر، وترك الإكثار من العتب، مع توطين النفس على الشكر عند الحفاظ، وعلى الصبر عند الضياع، وعلى المعاتبة عند الإساءة.

وأنشدني منصور بن محمد الكريزي:


كاف الخليل على المودة مثلها     وإذا أساء فكافه بعتابه
وإذا عتبت على امرئ أحببته     فتوق ظاهر عيبه وسبابه
وألن جناحك ما استلان لوده     وأجب أخاك إذا دعا بجوابه



وأنشدني علي بن محمد البسامي:


أعاتب إخواني، وأبقي عليهم     ولست لهم بعد العتاب بقاطع
وأغفر ذنب المرء إن زل زلة     إذا ما أتاها كارها غير طائع
وأجزع من لوم الحليم وعذله     وما أنا من جهل الجهول بجازع



أخبرني محمد بن علي الخلادي ، أخبرني محمد بن يزيد النحوي ، عن العتبي ، عن أبيه، قال: عتب ابن الزبير على معاوية في شيء، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، اسمع أبياتا أعتبتك فيها، قال: هات، فأنشده:


لعمرك ما أدري، وإني لأوجل     على أينا تعدو المنية أول
وإني على أشياء منك تريبني     كثيرا لذو صفح على ذاك مجمل
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته     على طرف الهجران لو كان يعقل



فقال له معاوية: لقد شعرت بعدي يا أبا بكر، فدخل عليه معن بن أوس [ ص: 181 ] المزني بعد ذلك، فقال له معاوية: هل أحدثت بعدنا شيئا، قال: نعم، ثم أنشده:


لعمرك ما أدري وإني لأوجل



فقال: علي بابن الزبير، فقال: أليس هذا لك فيما زعمت؟ قال: أنا ألفت المعنى، وهو ألف القوافي، وهو بعد ظئري، ومهما قال من شيء، فأنا قلته، فضحك معاوية، وكان معن بن أوس مسترضعا في مزينة.

سمعت الحسين بن إسحاق الأصفهاني يقول: كتب علي بن حجر السعدي إلى بعض إخوانه:


أحن إلى عتابك، غير أني     أجلك عن عتاب في كتاب
ونحن إذا التقينا قبل موت     شفيت غليل صدري من عتابي
وإن سبقت بنا أيدي المنايا     فكم من عاتب تحت التراب



وأنشدني عبد العزيز بن سليمان الأبرش:


صحائف عندي للعتاب طويتها     ستنشر يوما، والعتاب يطول
كتاب لعمري لا بنان يخطه     وسوف يؤديه إليك رسول
سأكتب إن لم يجمع الله بيننا     وإن نجتمع يوما فسوف أقول



قال أبو حاتم - رضي الله عنه - : الواجب على العاقل أن لا يقصر عن معاتبة أخيه على زلته؛ لأن من لم يعاتب على الزلة لم يكن بحافظ للخلة، ومن أعتب لم يذنب، كما أن من اغتفر لم يعاقب، وظاهر العتاب خير من مكتوم الحقد، ورب عتب أنفع من صفح؛ ولذلك أنشدني محمد بن إسحاق الواسطي:


إذا ما امرؤ ساءتك منه خليقة     فكاتمته، فالوهن في ذاك تركب
لعلك لو عاتبته، ثم لمته     لسرك حتى لم تكن تتعتب



وأنشدني الكريزي:


فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا     وحق لها العتبى لدينا وقلت [ ص: 182 ]
وإن تكن الأخرى، فإن وراءنا     مفاوز لو سارت بها العيس كلت



قال أبو حاتم - رضي الله عنه - : لا يجب على العاقل أن يناقش على تصحيح الإعتاب بالإكثار؛ مخافة أن يعود المعاتب إلى ما عوتب عليه؛ لأن من عاتب على كل ذنب أخاه، فحقيق أن يمله، ويقلاه، وإن من سوء الأدب كثرة العتاب، كما أن من أعظم الجفاء ترك العتاب، والإكثار في المعاتبة يقطع الود، ويورث الصد.

ولقد أنشدني عبد الله بن أحمد النقيب البغدادي ، لابن المعتز:


معاتبة الإلفين تحسن مرة     فإن أكثروا إدمانها أفسد الحبا
إذا شئت أن تقلى فزر متتابعا     وإن شئت أن تزداد حبا فزر غبا



وأنشدني محمد بن أبي علي الصيداوي:


إذا كنت في كل الأمور معاتبا     خليلك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحدا، أو صل أخاك فإنه     مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى     ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه



التالي السابق


الخدمات العلمية