الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 414 ] ذكر سعة حفظه وسيلان ذهنه  ، سوى ما تقدم :

                                                                                                                                                                                          أخبرنا أحمد بن عمر اللؤلؤي ، فيما قرأت عليه ، عن الحافظ أبي الحجاج المزي ، أن يوسف بن يعقوب أخبره ، أنا أبو اليمن الكندي ، أنا أبو منصور القزاز ، أنا أبو بكر الخطيب ، حدثني محمد بن أبي الحسن الساحلي ، ثنا أحمد بن الحسن الرازي ، سمعت أبا أحمد بن عدي ، يقول : سمعت عدة مشايخ يقولون : إن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد ، فسمع به أصحاب الحديث ، فاجتمعوا ، وعمدوا إلى مائة حديث ، فقلبوا متونها ، وأسانيدها ، وجعلوا متن هذا الإسناد إسناد آخر ، وإسناد هذا المتن لمتن آخر ، ودفعوها إلى عشرة أنفس لكل رجل عشرة أحاديث ، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري ، وأخذوا الموعد للمجلس ، فحضر المجلس جماعة من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ، ومن البغداديين ، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري : لا أعرفه ، فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته ، والبخاري يقول : لا أعرفه ، فكان (الفقهاء ) ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون : فهم الرجل ، ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير ، وقلة (الفهم ) ، ثم انتدب رجل آخر من العشرة ، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة ، فقال البخاري : لا أعرفه ، فسأله عن آخر ، فقال لا أعرفه ، فلم يزل يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته ، والبخاري يقول : لا أعرفه ، ثم انتدب له الثالث والرابع إلى تمام العشرة ، حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيدهم على لا أعرفه ، فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم ، فقال : أما حديثك الأول فهو كذا ، وصوابه كذا ، وحديثك الثاني فهو كذا ، والثالث ، والرابع ، على الولاء حتى أتى [ ص: 415 ] على تمام العشرة ، فرد كل متن إلى إسناده ، وكل إسناد إلى متنه ، وفعل بالآخرين مثل ذلك ، ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها ، وأسانيدها إلى متونها ، فأقر الناس له بالحفظ وأذعنوا له بالفضل .

                                                                                                                                                                                          قلت : هنا نخضع للبخاري ، فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب ، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة .

                                                                                                                                                                                          وقد روينا عن أبي بكر الكوذاني ، قال : ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل ، كان يأخذ الكتاب من العلم فيطلع إليه اطلاعة ، فيحفظ عامة أطراف الأحاديث من مرة واحدة ، وقد سبق ما حكاه حاشد بن إسماعيل في أيام طلبهم معه بالبصرة وكونه كان يحفظ ما يسمع ولا يكتب .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو الأزهر : كان بسمرقند أربعمائة محدث ، فتجمعوا وأحبوا أن يغالطوا محمد بن إسماعيل ، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق ، وإسناد اليمن في إسناد الحرم ، فما تعلقوا منه بسقطة .

                                                                                                                                                                                          وقال غنجار في تاريخه : سمعت أبا القاسم منصور بن إسحاق بن إبراهيم الأسدي ، يقول : سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد بن إبراهيم الداغوني ، يقول : سمعت يوسف بن موسى المروزي ، يقول : كنت بالبصرة في جامعها ، أو سمعت مناديا ينادي : يا أهل العلم ! لقد قدم محمد بن إسماعيل البخاري ، فقاموا في طلبه ، وكنت معهم ، فرأينا رجلا شابا ، لم يكن في لحيته بياض ، فصلى خلف الأسطوانة ، فلما فرغ (من الصلاة ) أحدقوا به ، وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء ، فأجابهم [ ص: 416 ] إلى ذلك ، فقام المنادي ثانية (فنادى ) في جامع البصرة ، لقد قدم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل ، فسألناه بأن يعقد مجلس الإملاء ، فأجاب بأن يجلس غدا في موضع كذا ، فلما كان الغداة حضر الفقهاء ، والمحدثون ، والحفاظ ، والنظار حتى اجتمع قريب من كذا وكذا ألف نفس ، فجلس أبو عبد الله للإملاء ، فقال قبل أن يأخذ في الإملاء : يا أهل البصرة ! أنا شاب ، وقد سألتموني أن أحدثكم ، وسأحدثكم بأحاديث عن أهل بلدكم تستفيدونها ، يعني ليست عندكم ، قال : فتعجب الناس من قوله . فأخذ في الإملاء ، فقال : حدثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة بن [رواد] العتكي بلديكم ، ثنا أبي ، عن شعبة ، عن منصور وغيره ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن أنس بن مالك ، أن أعرابيا جاء إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله الرجل يحب القوم . . . الحديث . ثم قال : هذا ليس عندكم إنما عندكم من غير منصور . قال يوسف بن موسى ، وأملى عليهم مجلسا على هذا النسق ، فيقول في كل حديث : روى فلان هذا الحديث عندكم كذا . وأما من رواية فلان يعني التي يسوقها فليست عندكم .

                                                                                                                                                                                          وقال حمدويه بن الخطاب : لما قدم البخاري قدمته الأخيرة من العراق ، وتلقاه من تلقاه من الناس ، وازدحموا عليه ، وبالغوا في بره ، فقيل له في ذلك ، فقال : كيف لو رأيتم يوم دخولنا البصرة؟

                                                                                                                                                                                          أنبئت ، عن أبي نصر بن الشيرازي ، عن جده ، أن الحافظ أبا القاسم بن عساكر ، أخبره : أنا إسماعيل بن أبي صالح . ح . وقرأته عاليا على أبي بكر [ ص: 417 ] الفرضي ، عن القاسم بن المظفر ، أنا علي بن الحسين ، عن الحافظ أبي الفضل بن ناصر ، وأبي الفضل الميهني ، قالا : أنا أبو بكر بن خلف ، قال ابن ناصر إجازة : أنا الحاكم ، حدثني أبو سعيد أحمد بن محمد النسوي ، حدثني أبو حسان مهيب بن سليم ، سمعت محمد بن إسماعيل ، قال : اعتللت بنيسابور علة خفيفة ، وذلك في شهر رمضان ، فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه ، فقال لي : أفطرت يا أبا عبد الله؟ ! فقلت : نعم ، فقال : (خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة ) فقلت : أنا عبدان ، عن ابن المبارك ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء من أي المرض أفطر ، فقال : من أي مرض كان ، كما قال الله عز وجل : فمن كان منكم مريضا قال البخاري : لم يكن هذا عند إسحاق ، قلت : هذا رواه عبد الرزاق في مصنفه ، عن ابن جريج أيضا ، ولعله فات إسحاق .

                                                                                                                                                                                          وقال محمد بن أبي حاتم ، وراق البخاري : سمعته يقول : لو نشر بعض إسنادي لم يفهموا كيف صنفت التاريخ ولا عرفوه ، ثم قال صنفته ثلاث مرات .

                                                                                                                                                                                          وقال أحمد بن أبي جعفر والي بخارى : قال لي محمد بن إسماعيل يوما : رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر ، فقلت له : يا أبا عبد الله ! بتمامه؟ فسكت .

                                                                                                                                                                                          وقال سليم بن مجاهد : قال لي محمد بن إسماعيل ، لا أجيء بحديث عن الصحابة ، أو التابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ، ووفاتهم ، ومساكنهم ، ولست أدري حديثا من حديث الصحابة والتابعين ، يعني من الموقوفات إلا ولي في ذلك أصل أحفظه حفظا عن كتاب الله ، وسنة رسوله ، صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وقال علي بن الحسين بن عاصم البيكندي : قدم علينا محمد بن إسماعيل ، فقال [ ص: 418 ] له رجل من أصحابنا ، سمعت إسحاق بن راهويه يقول : كأني أنظر إلى سبعين ألف حديث من كتابي ، فقال محمد بن إسماعيل : أو تعجب من هذا؟ لعل في هذا الزمان من ينظر إلى مائتي ألف حديث من كتابه ، وإنما عنى نفسه .

                                                                                                                                                                                          وقال محمد بن حمدويه : سمعت البخاري ، يقول : أحفظ مائة ألف حديث صحيح ، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح .

                                                                                                                                                                                          وقال له وراقه : تحفظ جميع ما أدخلت في المصنف ، فقال : لا يخفى علي جميع ما فيه ، وصنفت جميع كتبي ثلاث مرات .

                                                                                                                                                                                          قال : وبلغني أنه شرب البلاذر ، فسألته حلوة ، هل من دواء للحفظ؟ فقال : لا أعلم ، ثم أقبل علي ، فقال : لا أعلم شيئا أنفع للحفظ من نهمة الرجل ، ومداومة النظر .

                                                                                                                                                                                          وقال : أقمت بالمدينة بعد أن حججت سنة جرداء أكتب الحديث . قال : وأقمت بالبصرة خمس سنين ، معي كتبي ، أصنف وأحج في كل سنة ، وأرجع من مكة إلى البصرة ، قال : وأنا أرجو أن الله تعالى يبارك للمسلمين في هذه المصنفات وعن البخاري ، قال : تذكرت يوما أصحاب أنس ، فحضرني في ساعة ثلاثمائة نفس ، وما قدمت على شيخ إلا كان انتفاعه بي أكثر من انتفاعي به .

                                                                                                                                                                                          وقال وراقه : عمل كتابا في الهبة فيه نحو خمسمائة حديث ، وقال : ليس في كتاب وكيع في الهبة إلا حديثان مسندان ، أو ثلاثة ، وفي كتاب ابن المبارك خمسة أو نحوه .

                                                                                                                                                                                          وقال وراقه : سمعته يقول : ما نمت البارحة حتى عددت كم أدخلت في [ ص: 419 ] تصانيفي من الحديث ، فإذا نحو مائتي ألف . وقال : أيضا لو قيل لي (شيء ) لما قمت حتى أروي عشرة آلاف حديث في الصلاة خاصة ، وقال : ما جلست للتحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم ، وحتى نظرت في كتب أهل الرأي ، وما تركت بالبصرة حديثا إلا كتبته .

                                                                                                                                                                                          قال : وسمعته يقول : لا أعلم شيئا يحتاج إليه ، إلا وهو في الكتاب والسنة . قال : فقلت له : يمكن معرفة ذاك؟ قال : نعم .

                                                                                                                                                                                          وقال أحمد بن حمدون الحافظ : رأيت البخاري في جنازة ، ومحمد بن يحيى الذهلي يسأله عن الأسماء والعلل ، والبخاري يمر فيه مثل السهم ، كأنه يقرأ قل هو الله أحد .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية