الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          قوله فيه: باب الكيل على البائع والمعطي.

                                                                                                                                                                                          وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "اكتالوا حتى تستوفوا".  

                                                                                                                                                                                          ويذكر، عن عثمان [رضي الله عنه] أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال له: "إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل".  

                                                                                                                                                                                          وأما قول النبي، صلى الله عليه وسلم، فكأنه يشير إلى القصة التي في حديث طارق بن عبد الله المحاربي ، فقد قرأت على أم الفضل بنت الشيخ أبي إسحاق بن سلطان ، بدمشق، عن القاسم بن عساكر ، وأبي نصر بن الشيرازي ، كلاهما، عن أبي الوفاء محمود بن إبراهيم العبدي ، أنا أبو الخير الباغبان ، ثنا أبو عمرو عبد الوهاب بن الحافظ أبي عبد الله بن منده ، أنا أبي، أنا أحمد بن محمد بن زياد ، ومحمد بن يعقوب ، قالا: ثنا أحمد بن عبد الجبار ، ثنا يونس بن بكير ، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد ، عن جامع بن شداد ، عن طارق ، قال: رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مرتين رأيته بسوق ذي المجاز، وأنا في تباعة لي، فمر وعليه حلة حمراء، فسمعته يقول: يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، ورجل يتبعه يومئذ بالحجارة، قد أدمى كعبه، وهو [ ص: 236 ] يقول: يا أيها الناس: لا تطيعوا هذا فإنه كذاب، فقلت: من هذا؟ قيل: غلام من بني عبد المطلب، فقلت من هذا الذي يرميه بالحجارة؟ قيل: عمه عبد العزى أبو لهب بن عبد المطلب ، فلما أظهر الله الإسلام خرجنا من الربذة ومعنا ظعينة لنا حتى نزلنا قريبا من المدينة فبينا نحن قعود، إذ أتى رجل عليه ثوبان ، فسلم علينا، فقال: من أين القوم؟ فقلنا: من الربذة ومعنا جمل أحمر، فقال: تبيعون الجمل؟  قلنا: نعم، فقال: بكم؟ قلنا: بكذا وكذا صاعا من تمر، فقال: قد أخذت، وما استقصى، فأخذ بخطام الجمل، فذهب حتى توارى بحيطان المدينة، فقال بعضنا لبعض: أتعرفون الرجل؟ فلم يكد أحد منا يعرفه، فلام القوم بعضهم بعضا، وقالوا: تعطون جملكم من لا تعرفونه؟ فقالت الظعينة: لا تتلاوموا فلقد رأيت وجه رجل لا يغدر بكم، ما رأيت شيئا أشبه بالقمر، ليلة البدر من وجهه، فلما كان العشي، أتى رجل فقال: السلام عليكم ورحمة الله، أنتم الذين جئتم من الربذة؟ فقلنا: نعم. فقال: أنا رسول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إليكم وهو يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر، حتى تشبعوا، وتكتالوا حتى تستوفوا، فأكلنا من التمر حتى شبعنا، واكتلنا حتى استوفينا، ثم قدمنا المدينة من الغد، فإذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قائم يخطب الناس على المنبر، فسمعته يقول: "يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمك، وأباك، وأختك، وأخاك، وأدناك وأدناك"  وثم رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله: هؤلاء بنو ثعلبة من يربوع الذين قتلوا فلانا في الجاهلية، فخذ لنا بثأرنا، فرفع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يديه حتى رأينا بياض إبطيه، يقول: "لا تجني أم على ولد، لا تجني أم على ولد".  

                                                                                                                                                                                          رواه ابن حبان في صحيحه: عن عبد الله بن محمد الأزدي ، عن إسحاق بن إبراهيم وهو ابن راهويه ، عن الفضل بن موسى، عن يزيد بن زياد ، بطوله.

                                                                                                                                                                                          [ ص: 237 ] وروى النسائي بعضه، مفرقا عن يوسف بن عيسى ، عن الفضل بن موسى.

                                                                                                                                                                                          وقد وقع لنا من وجه آخر، عن جامع بن شداد ، قرأت على خديجة بنت إبراهيم البعلبكية بدمشق، عن القاسم بن مظفر بن محمود بن تاج الأمناء، قراءة عليه، وهي آخر من حدثنا عنه بالسماع، عن عبد الله بن عمر بن علي ، عن مسعود بن الحسن الثقفي ، أن محمد بن الحسن بن سليم ، حدثهم: ثنا أبو علي بن شاذان ، أنا عبد الله بن إسحاق الخراساني ، ثنا محمد بن الجهم ، ثنا جعفر بن عون ، ثنا أبو جناب الكلبي ، ثنا جامع بن شداد المحاربي ، حدثني رجل من قومي، فقال له طارق بن عبد الله: قال: إني لقائم بسوق ذي المجاز، إذ أقبل رجل عليه جبة له، وهو يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، ورجل يتبعه يرميه بالحجارة، ويقول: يا أيها الناس إنه كذاب، فلا تصدقوه، فقلت: من هذا؟ قالوا: غلام من بني هاشم الذي يزعم أنه رسول الله، قلت: من هذا الذي يفعل به. قالوا: هذا عمه عبد العزى، فلما أسلم الناس وهاجروا (خرجنا من الربذة نريد المدينة) ، نمتار من تمرها، قال: فلما دنونا من حيطانها ونخلها، قلنا: لو نزلنا، فلبسنا ثيابا غير ثيابنا هذه، إذ أقبل رجل في طمرين له، فسلم ثم قال: من أين أقبل القوم؟ قلنا: من الربذة. قال: فأين تريدون؟ قلنا: نريد هذه المدينة، قال: ما حاجتكم فيها؟ قلنا: ثمار من تمرها، قال: ومعنا ظعينة لنا، ومعنا جمل أحمر، مخطوم بحبل، قال: تبيعون جملكم هذا؟ قلنا: نعم بكذا، وكذا صاعا من تمر. قال: فما استوضعنا مما قلنا شيئا، فأخذ بخطام الجمل، و(انطلق، فلما توارى ) عنا بحيطان المدينة ونخلها، قلنا: ما ضيعنا، والله ما بعنا جملنا ممن نعرف، ولا أخذنا له ثمنا. قال: تقول المرأة التي معنا: والله لقد رأيت رجلا، كأن وجهه شقة القمر، ليلة البدر، أنا ضامنة لثمن جملكم، قال: إذ أقبل رجل، فقال: أنا رسول رسول الله إليكم، هذا تمركم، فكلوا، واشبعوا، واكتالوا، واستوفوا، فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا فاستوفينا، ثم دخلنا المدينة، فإذا هو قائم [ ص: 238 ] على المنبر، يخطب الناس، فأدركنا من خطبته، وهو يقول: "تصدقوا إن الصدقة خير لكم، اليد العليا خير من اليد السفلى، أمك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك"  إذ أقبل رجل، في نفر من بني يربوع، فقام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله إن لنا في هؤلاء دما في الجاهلية فقال: "إن أما لا تجني على ولد، ثلاث مرات".

                                                                                                                                                                                          رواه أبو عبد الله بن منده في "المعرفة": عن إسماعيل بن محمد البغدادي ، عن محمد بن الجهم ، ولم يسق لفظه.

                                                                                                                                                                                          وأبو جناب اسمه يحيى بن أبي حية ، كوفي، يكتب حديثه في المتابعات، وكان يعاب عليه التدليس، وقد صرح بسماعه هنا.

                                                                                                                                                                                          وأما حديث عثمان ، فقرأته على سليمان بن أحمد [السقا] ، بطيبة المكرمة، أخبركم أحمد بن علي بن الحسن ، أن عبد الحميد بن عبد الهادي ، أخبره: أنا يوسف بن معالي ، أنا علي بن أحمد بن قبيس ، أنا الحسين بن علي بن أبي الرضا ، أنا تمام بن محمد [الرازي] ، أنا محمد بن حميد ، ثنا أحمد بن منصور الرمادي. ح. وقرأت على محمد بن محمد بن عبد اللطيف ، أخبركم يوسف بن أحمد بن جبريل ، أن أبا الفرج بن الصيقل ، أخبره: أنا يوسف بن المبارك ، أنا محمد بن عبد الباقي ، أنا أحمد بن عثمان ، أنا أبو القاسم بن حبابة ، أنا أبو القاسم البغوي ، حدثني ابن زنجويه ، وإبراهيم بن هانئ ، قالا: ثنا عبد الله بن صالح ، كاتب الليث. ح. وأخبرنيه أعلى من هذا بدرجة أبو العباس أحمد بن أبي بكر المقدسي ، في كتابه، أن سليمان ابن حمزة المقدسي ، أنبأه عن الحافظ ضياء الدين المقدسي ، إجازة إن لم يكن سماعا، أنا أبو جعفر الصيدلاني ، أنا الحسن بن أحمد الحداد ، أنا أبو نعيم ، أنا عبد الله بن [ ص: 239 ] جعفر ، ثنا إسماعيل بن عبد الله ، ثنا عبد الله بن صالح ، حدثني أبو أيوب يعني يحيى ابن أيوب ، عن عبيد الله بن المغيرة ، عن منقذ مولى ابن سراقة ، عن عثمان ، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "يا عثمان ، إذا ابتعت فاكتل، وإذا بعت فكل".  

                                                                                                                                                                                          أخرجه الدارقطني ، عن إبراهيم بن حماد ، عن أحمد بن منصور ، وغيره، عن أبي صالح به. ومنقذ مجهول الحال، وقد ذكره ابن حبان في الثقات.

                                                                                                                                                                                          وقد تابعه سعيد بن المسيب ، عن عثمان ، قال الإمام أحمد في مسنده: أنا الحسن بن موسى ، ثنا ابن لهيعة ، عن موسى بن وردان ، عن سعيد بن المسيب.

                                                                                                                                                                                          ومن هذا الوجه أخرجه ابن ماجه في سننه، وأبو بكر البزار في مسنده، وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

                                                                                                                                                                                          قلت: والإسناد السابق يرد عليه، وابن لهيعة ضعيف الحديث. ولكنه من قديم حديثه، فذكر ابن عبد الحكم في فتوح مصر، قال: وروى الليث بن سعد ، عن ابن لهيعة ، عن موسى بن وردان ، أن سعيد بن المسيب ، قال له: اقرأ على ابن حجيرة السلام، وأمره فلينه أهل بلده، عن الزنا، فإنه ذكر لي أنه بها كثير، وقد سمعت عثمان بن عفان ، على المنبر يقول: "كنت أشتري التمر من سوق بني قينقاع، ثم أجلبه إلى المدينة، ثم أفرغه لهم، وأخبرهم بما فيه من المكيلة، فيعطوني ما رضيت به من الربح، ويأخذونه بخبري ولا يكيلونه، فبلغ ذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عثمان إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل".  

                                                                                                                                                                                          ورواه أبو بكر بن علي المروزي في مسنده، من حديث ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، حدثني موسى بن وردان ، أنه سمع سعيد بن المسيب ، يقول: حدثني عثمان ، فذكر [ ص: 240 ] الحديث دون القصة.

                                                                                                                                                                                          وقد قال أحمد بن حنبل وغيره: إن حديث ابن لهيعة القديم صحيح.

                                                                                                                                                                                          وتابع موسى بن وردان على روايته، عن سعيد ، إسحاق بن أبي فروة ، وهو أضعف من ابن لهيعة.

                                                                                                                                                                                          رواه البيهقي من طريقه.

                                                                                                                                                                                          وله شاهد مرسل، رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه، قال: حدثنا يحيى ابن أبي زائدة ، وابن أبي غنية ، عن عبد الملك بن أبي غنية ، عن الحكم ، قال: قدم لعثمان طعام على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهبوا بنا إلى عثمان نعينه على بيع طعامه، فقام إلى جنبه، وعثمان يقول: في هذه العرارة كذا وكذا، وأبيعها بكذا، وكذا فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إذا سميت فكل".  

                                                                                                                                                                                          وقال ابن أبي حاتم في العلل: سألت أبي، عن حديث رواه محمد بن حمير ، قال: حدثني الأوزاعي ، حدثني ثابت بن ثوبان ، حدثني مكحول ، عن أبي قتادة ، قال: كان عثمان يشتري الطعام، ويبيعه قبل أن يقبضه، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم "إذا ابتعت فاكتل، وإذا بعت فكل".  فقال: هذا حديث منكر بهذا الإسناد.

                                                                                                                                                                                          قلت: رواته ثقات، إلا أن مكحولا لم يسمع من أبي قتادة ، وبمجموع هذه الطرق يعرف أن للحديث أصلا، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية