الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 433 ] هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء  فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين  قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء  قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار  

                                                                                                                                                                                                                                      هنالك أي: عند ذلك، دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك أي: من عندك، ذرية طيبة نسلا مباركا تقيا، إنك سميع الدعاء قال ابن عباس: يريد: لأوليائك وأهل طاعتك.

                                                                                                                                                                                                                                      فنادته الملائكة وقرأ حمزة فناداه الملائكة بالتذكير.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج: "الجماعة" يلحقها التأنيث للفظ الجماعة، ويجوز أن يعبر عنها بلفظ التذكير; لأنه يقال: جمع الملائكة، وهذا كقوله: وقال نسوة في المدينة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: أن الله يبشرك بيحيى قرئ بفتح إن وكسرها، فمن فتح كان المعنى: فنادته الملائكة بأن الله، ثم حذف الجار، ومن كسر أضمر القول كأنه يقول: نادته الملائكة فقالت: إن الله، وإضمار القول في القرآن كثير كقوله: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم أي: يقولون سلام عليكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ حمزة والكسائي يبشرك مخففا، من البشر بمعنى التبشير، يقال: بشره يبشره بشرا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: مصدقا بكلمة من الله قال ابن عباس: يريد: مصدقا بعيسى أنه روح الله وكلمته، وسمي عيسى:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 434 ] كلمة الله; لأنه حدث عند قوله: كن فوقع عليه اسم الكلمة; لأنه بها كان.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان يحيى أول من آمن بعيسى وصدقه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وسيدا قال الضحاك والربيع: "السيد": الحليم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو صالح وسعيد بن جبير: "السيد": التقي.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عكرمة: "السيد": الذي لا يغلبه غضبه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج: "السيد": الذي يفوق في الخير قومه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وحصورا وهو الذي لا يأتي النساء ولا يقربهن، قال ابن قتيبة: هو فعول بمعنى مفعول، كأنه محصور عنهن، أي: مأخوذ محبوس، ويجوز أن يكون بمعنى فاعل، كأنه حصر نفسه عن الشهوات.

                                                                                                                                                                                                                                      قال رب أنى يكون لي غلام لما بشر زكريا بالولد على كبر سنه استخبر الله تعالى عند ذلك فقال: أنى يكون لي غلام أي: على أي حال يكون ذلك؟ أتردني إلى حال الشباب وامرأتي، أم مع حال الكبر؟ وقد بلغني الكبر وهو مصدر، كبر الرجل: إذا أسن.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس: كان زكريا يوم بشر بالولد ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وامرأتي عاقر أي: ذات عقر لا تلد، قيل له: كذلك أي: مثل ذلك من الأمر، وهو هبة الولد على [ ص: 435 ] الكبر، الله يفعل ما يشاء فسبحان من لا يعجزه شيء.

                                                                                                                                                                                                                                      فسأل الله علامة يعرف بها وقت حمل امرأته ليزيد في العبادة شكرا على هبة الولد، وهو قوله: قال رب اجعل لي آية قال المفسرون: إن زكريا لما بشر بالولد سأل الله علامة يعرف بها وقت حمل امرأته ليزيد في العبادة شكرا لله على هبة الولد ف قال الله تعالى: آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا أي: علامة ذلك أن يمسك لسانك عن الكلام وأنت صحيح سوي، كما قال: آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحسن وقتادة: أمسك لسانه ثلاثة أيام، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا إيماء، وجعل ذلك علامة حمل امرأته.

                                                                                                                                                                                                                                      والرمز: الإيماء بالشفتين والحاجبين والعينين، يقال: رمز يرمز ويرمز.

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما حبس لسانه عن التكلم بأمور الدنيا وما يدور بين الناس، ولم يحبس لسانه عن التسبيح وذكر الله، وهو قوله: واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار .

                                                                                                                                                                                                                                      و "العشي": جمع عشية، وهي آخر النهار، والإبكار مصدر أبكر، إذا صار في وقت البكرة، ثم يسمى ما بين طلوع الفجر إلى الضحى: إبكارا، كما يسمى: إصباحا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية