الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا  فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له [ ص: 91 ] سبيلا  ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا  إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم هذه لام القسم ، كأنه قال : والله ليجمعنكم في الموت أو في القبور ، إلى يوم القيامة سميت القيامة لأن الناس يقومون من قبورهم ، ومن أصدق من الله حديثا قال ابن عباس : يريد موعدا لا خلف لوعده .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مقاتل : لا أحد أصدق من الله في أمر البعث .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله جل جلاله : فما لكم في المنافقين فئتين نزلت في قوم قدموا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ، ثم ارتدوا بعد ذلك ، واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجعوا إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها ، فاختلف المسلمون فيهم : فقائل يقول : هم منافقون .

                                                                                                                                                                                                                                      وقائل يقول : هم مؤمنون .

                                                                                                                                                                                                                                      فبين الله تعالى نفاقهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى الآية : فما لكم مختلفين في هؤلاء المنافقين ، والله أركسهم بما كسبوا أي : ردهم إلى الكفر .

                                                                                                                                                                                                                                      يقال : ركست الشيء وأركسته .

                                                                                                                                                                                                                                      لغتان إذا رددته وقلبت آخره على أوله .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : تأويل أركسهم : نكسهم وردهم إلى حكم الكفار من الذل والصغار والسبي والقتل ، بما كسبوا بما أظهروا من الارتداد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : أتريدون أن تهدوا من أضل الله قال ابن عباس : ترشدوا من لم يرشده الله ، أي : أتقولون : هؤلاء مهتدون والله قد أضلهم ، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا طريقا إلى الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله جل جلاله : ودوا لو تكفرون كما كفروا أي : أنهم يودون لكم الكفر كما فعلوا هم فتكونون أنتم وهو [ ص: 92 ] سواء في الكفر ، فلا تتخذوا منهم أولياء أي : لا توالوهم فإنهم أعداء لكم حتى يهاجروا في سبيل الله حتى يرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودار الهجرة ثانيا .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن تولوا : أعرضوا عن الهجرة وقبول حكم الإسلام ، فخذوهم بالأسر ، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا قال ابن عباس : ولا تستنصروا بهم على عدوكم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل : إلا الذين يصلون إلى قوم الآية ، هذا الاستثناء راجع إلى القتل لا إلى الموالاة ؛ لأن موالاة المشركين والمنافقين  حرام بكل حال .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى يصلون إلى قوم يتصلون بهم ، ويدخلون فيما بينهم بالحلف والجوار ، قال ابن عباس : يريد : يلجأون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وهم : بنو مدلج في قول الحسن ، وقال الضحاك : بنو بكر بن زيد مناة ، وقال مقاتل : هم خزاعة وجذيمة بن عبد مناف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : أو جاءوكم حصرت صدورهم معنى حصرت : ضاقت ، وكل من ضاق صدره بأمر فقد حصر ، وهؤلاء الذين وصفوا بضيق الصدر عن القتال هم بنو مدلج ، كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد أن لا يقاتلوه ، فنهى الله تعالى عن قتال هؤلاء المرتدين إن اتصلوا بأهل عهد المسلمين ، إما بحلف أو بجوار ؛ لأن من انضم إلى قوم ذوي عهد مع النبي صلى الله عليه وسلم فلهم حكمهم في حقن الدم والمال .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم كان بنو مدلج قد عاهدوا أن لا يقاتلوا المسلمين ، وعاهدوا قريشا أن لا يقاتلوهم أيضا ، فهو قوله : أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم يعني : قريشا .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم من الله تعالى على المسلمين بكف بأس المعاهدين فقال : ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم يعني : إن ضيق صدورهم عن قتالكم إنما هو لقذف الله الرعب في قلوبهم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 93 ] فإن اعتزلوكم أي : اعتزلوا قتالكم وألقوا إليكم السلم أي : المقادة والاستسلام فما جعل الله لكم عليهم سبيلا في قتالهم وسفك دمائهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية