الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم  وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون  وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون  ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وإذ نجيناكم من آل فرعون التنجية: التخليص من مكروه وشدة، ومثله الإنجاء، وآل فرعون: أتباعه، ومن كان على دينه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 135 ] وقوله: يسومونكم سوء العذاب السوم: أن تجشم إنسانا مشقة أو سوءا أو ظلما، يقال: سمته ذلا وسوءا، إذا ألزمته إياه، وسوء العذاب: شديد العذاب، وقد فسره بقوله: يذبحون أبناءكم وأصل الذبح في اللغة: الشق، والذباح والذباح بالتخفيف والتشديد: تشقق في الرجل، وسمي فري الأوداج ذبحا لأنه نوع شق، والتفعيل: على التكثير.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (ويستحيون نساءكم) يستحيون: يستفعلون، من الحياة، والمعنى: يستبقونهن أحياء ولا يقتلونهن، ومنه الحديث: "اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم" ، واسم النساء: يقع على الصغار والكبار، وهم كانوا يستبقون البنات لا يقتلونهن، والخطاب لبني إسرائيل، يذكرهم الله تعالى النعمة عليهم حين أنجاهم من عدوهم الذين كانوا يذيقونهم شدة العذاب بذبح الأبناء واستبقاء النساء، ثم قال: وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم البلاء: اسم ممدود من البلو، وهو الاختبار والتجربة، يقال: بلاه يبلوه بلوا، إذا جربه، والبلاء يكون حسنا ويكون سيئا، والله عز وجل يبلو عباده بالصنيع الحسن ليمتحن شكرهم عليه، ويبلوهم بالبلوى التي يكرهونها ليمتحن صبرهم، فقيل للحسن: بلاء، وللسيئ: بلاء، لأن أصلهما المحنة، ومنه قوله تعالى: وبلوناهم بالحسنات والسيئات ، وقال: ونبلوكم بالشر والخير فتنة ، والذي في هذه الآية يحتمل الوجهين، فإن حملته على الشدة كان معناه: في استحياء البنات للخدمة، وذبح البنين بلاء ومحنة، وهو قول ابن عباس ، في رواية عطاء والكلبي .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 136 ] وإن حملته على النعمة كان المعنى: وفي تنجيتكم من هذه المحن نعمة عظيمة، وهو قول مجاهد ، والسدي .

                                                                                                                                                                                                                                      ومثل هذا في احتمال الوجهين قوله في قصة إبراهيم : إن هذا لهو البلاء المبين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وذلك أن الله تعالى أمر موسى أن يذهب ببني إسرائيل إلى البحر فينفلق له حتى يخوض فيه هو وبنو إسرائيل، فلما ذهب بهم وانتهى إلى البحر فرق الله البحر اثني عشر طريقا، لكل سبط منهم طريق، حتى مروا فيه وهو منفلق، وسمي البحر بحرا لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (وأغرقنا آل فرعون) ولم يذكر غرق فرعون ؛ لأنه قد ذكره في مواضيع، كقوله تعالى: فأغرقناه ومن معه جميعا ، ويجوز أن يريد بآل فرعون : نفسه، كقوله تعالى: مما ترك آل موسى وآل هارون يعني موسى وهارون .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وأنتم تنظرون وذلك أنهم لما خرجوا من البحر رأوا انطباق البحر على فرعون وقومه، ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تنظرون إلى فرق الله البحر وإنجائكم من عدوكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة قال المفسرون: إن الله تعالى لما أنجى موسى وبني إسرائيل وأغرق فرعون ، وأمن بنو إسرائيل من عدوهم ودخلوا مصر ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ممهدة، فواعد الله موسى أن يؤتيه الكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون، وأمره أن يصوم ثلاثين يوما فصامه وصالا ولم يطعم شيئا، فتغيرت رائحة فمه، فعمد إلى لحاء شجرة فمضغها، فأوحى الله إليه: "أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك"؟ وأمر أن يصل بها عشرا، (فتم ميقات ربه أربعين ليلة)، وخرج موسى من بين بني إسرائيل تلك الأيام فاتخذ السامري عجلا وقال لبني إسرائيل: هذا إلهكم وإله موسى ، فافتتن بالعجل ثمانية آلاف رجل منهم، وعكفوا عليه يعبدونه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 137 ] وقراءة أكثر القراء (واعدنا) من المواعدة؛ لأن ما كان من الله من الوعد ومن موسى القبول والتحري لإنجازه يقوم مقام الوعد، فصار كالتواعد من الفاعلين، وأيضا فإن المفاعلة قد تقع من الواحد وقد ذكرنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو عمرو (وعدنا) بغير ألف، لكثرة ما جاء في القرآن من هذا القبيل بغير ألف، كقوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا ، ألم يعدكم ربكم ، وإذ يعدكم الله ، إن الله وعدكم وعد الحق ، وعدكم الله مغانم كثيرة ، يقال: وعدته وعدا وعدة وموعدا، وموعدة قال الله تعالى: إلا عن موعدة وعدها إياه ، وقال: وجعلنا لمهلكهم موعدا .

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال: "وعد" في الخير والشر، قال الله تعالى: ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ، وقال: النار وعدها الله الذين كفروا ، وتقدير الكلام: وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة للتكلم معه، أو لإتيانه الكتاب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ثم اتخذتم العجل من بعده الاتخاذ: افتعال من الأخذ، والمعنى: ثم اتخذتم العجل من بعده معبودا أو إلها، فحذف المفعول الثاني للعلم به، وكذلك قوله تعالى: باتخاذكم العجل ، اتخذوه وكانوا ظالمين ، إن الذين اتخذوا العجل ، التقدير في هذا كله: اتخذوه إلها، فحذف المفعول الثاني، ومعنى الآية: أن الله تعالى نبههم على أن كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ليس بأعجب من كفرهم وعبادتهم العجل ومن موسى عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (وأنتم ظالمون) أي: ضارون لأنفسكم، وواضعون العبادة في غير موضعها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 138 ] وقيل: وأنتم ظالمون اليوم بمخالفة محمد صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (ثم عفونا عنكم) قال ابن الأنباري : عفا الله عنك، معناه: محا الله عنك، مأخوذ من قولهم: عفت الرياح الآثار، إذا درستها ومحتها، وعفو الله: محوه الذنب عن العبيد، والمراد بالعفو هاهنا: قبوله التوبة من عبدة العجل، وأمره برفع السيف عنهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (من بعد ذلك) أي: من بعد عبادة العجل، (لعلكم تشكرون) لكي تشكروا نعمتنا بالعفو، ومعنى الشكر في اللغة: عرفان الإحسان بالقلب ونشره باللسان.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية