وقوله تعالى: وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان الآية، الفرقان: مصدر فرقت بين الشيئين أفرق فرقا وفرقانا، كالرجحان والنقصان، ويسمى كل فارق فرقانا، كما سمي كتاب الله: الفرقان، لفصله بين المحق والمبطل، وسمى الله تعالى يوم بدر يوم الفرقان في قوله: يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ؛ لأنه فرق في ذلك اليوم بين الحق والباطل، فكان ذلك يوم الفرقان.
وقوله تعالى: إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا أي: يفرق بينكم وبين ذنوبكم، واختلفوا في معنى الفرقان في هذه الآية: فقال : هو بمعنى الكتاب، وهما شيء واحد، وهو اختيار مجاهد ، قال: العرب تكرر الشيء إذا اختلفت ألفاظه، كقول الفراء عدي بن زيد :
وألفى قولها كذبا ومينا
.وقال عنترة :
أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
[ ص: 139 ] وارتضى هذا القول، قال: لأن الله تعالى ذكر الزجاج لموسى الفرقان في غير هذا الموضع، وهو قوله تعالى: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ، فعلى هذا القول الفرقان هو الكتاب، والكتاب هو الفرقان.
قال : ويجوز أن يريد بالفرقان: انفراق البحر، وهو من عظيم الآيات، كأنه قيل: آتيناه فرق البحر. الزجاج
وقال : أراد بالفرقان: النصر على الأعداء؛ لأن الله تعالى نصر ابن عباس موسى وقومه على عدوهم، وسمى نصره فرقا؛ لأن في ذلك فرقا بين الحق والباطل. وقوله: (لعلكم تهتدون) أي: بما آتيناه من الكتاب.
قوله تعالى: وإذ قال موسى لقومه يعني الذين عبدوا العجل، يا قوم نداء مضاف حذف منه الياء، والمنادى إذا أضفته إلى نفسك جاز فيه ثلاث لغات: حذف الياء، وإثباتها، وفتحها، فحذف الياء كقوله: يا قوم ، والإثبات كقوله: يا عبادي فاتقون، والفتح كقوله: يا عبادي الذين أسرفوا على قراءة من فتح الياء، والأجود الاكتفاء بالكسرة.
وقوله تعالى: إنكم ظلمتم أنفسكم أي: نقصتم حظ أنفسكم، باتخاذكم العجل إلها، فتوبوا إلى بارئكم ارجعوا إليه بالطاعة والتوحيد، والباري: الخالق، يقال: برأ الله الخلق، أي: خلقهم.
وكان أبو عمرو يختلس حركة الهمزة في بارئكم كأنه يخفف الحركة ويقربها من الجزم، وسيبويه : يجوز تخفيف حركة الإعراب، وأنشد في ذلك:
وقد بدا هنك من المئزر
[ ص: 140 ] وأنشد أيضا قول امرئ القيس :
فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل
وفي الآية إضمار واختصار، كأنه لما قال لهم: (فتوبوا إلى بارئكم) قالوا: كيف؟ قال: (فاقتلوا أنفسكم) أي: ليقتل البريء المجرم.
المعنى: استسلموا للقتل، فجعل استسلامهم للقتل قتلا منهم لأنفسهم.
وقوله تعالى: (ذلكم خير لكم) أي: توبتكم بقتل أنفسكم، خير لكم عند بارئكم من إقامتكم على عبادة العجل.
وقوله تعالى: فتاب عليكم في الآية اختصار لأن التقدير: ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم .
قوله تعالى: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة قال : يعني: نراه علانية. ابن عباس
وقال : عيانا، ومعنى قوله: جهرة أي: غير مستتر عنا بشيء، يقال: جهرت بالقول، أجهر به: إذا أعلنته، والجهر: العلانية. قتادة
وقوله تعالى: فأخذتكم الصاعقة يعني: ما تصعقون منه، أي: تموتون، قال المفسرون: إن الله تعالى [ ص: 141 ] أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار موسى سبعين رجلا من خيارهم، وخرج بهم إلى طور سيناء ، وسمعوا كلام الله عز وجل، وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، ويغشاه عمود من غمام، فلما فرغ موسى وانكشف الغمام، قالوا له: لن نؤمن لك أي: لن نصدقك حتى نرى الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة، وهي نار جاءت من السماء فأحرقتهم جميعا.
وقوله: وأنتم تنظرون يريد: نظر بعضهم إلى بعض عند نزول الصعقة، وإنما أخذتهم لأنهم امتنعوا من الإيمان بموسى بعد ظهور معجزته، حتى يريهم ربهم جهرة، والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزتهم، ولا يجوز اقتراح المعجزات عليهم، فلهذا عاقبهم الله، وهذه الآية تتضمن التوبيخ لهم على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم مع قيام معجزته، كما خالف أسلافهم موسى مع ما أتى به من الآيات الباهرة، والتحذير لهم أن ينزل بهم ما نزل بأسلافهم.
قوله تعالى: ثم بعثناكم من بعد موتكم قال المفسرون: إنهم لما هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرع ويقول: يا رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ، فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله جميعا، رجلا بعد رجل، وهم ينظرون كيف يحيون، فذلك قوله تعالى: ثم بعثناكم من بعد موتكم أي: نشرناكم وأعدناكم أحياء.
والبعث: إثارة البارك والنائم عن مكانه، ونشر الميت كبعث النائم.
قال : بعثهم الله تعالى ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم، ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا، ولكن كان ذلك الموت عقوبة لهم على ما قالوا. قتادة
قال : والآية احتجاج على مشركي العرب الذين كفروا بالبعث، فاحتج النبي صلى الله عليه وسلم بإحياء من بعث بعد موته في الدنيا فيما يوافقه اليهود والنصارى. الزجاج
وقوله تعالى: (لعلكم تشكرون) أي: نعمة البعث.
قوله تعالى: وظللنا عليكم الغمام معناه: تسترناكم عن الشمس بالغمام، والظل معناه في اللغة: الستر، يقال: لا أزال الله عنا ظل فلان، أي: ستره، وظل الشجرة: سترها، ويقال لظلمة الليل: ظل؛ لأنها تستر الأشياء، ومنه قوله تعالى: كيف مد الظل .
[ ص: 142 ] والغمام: جمع غمامة، وهي السحاب، سمي غماما لأنه يغم السماء، أي: يسترها، وكل ما ستر شيئا فقد غمه.
قال المفسرون: وهذا كان حين أبوا على موسى دخول تلقاء مدينة الجبارين فتاهوا في الأرض ثم ندموا على ذلك وكانت العزيمة من الله أن يحبسهم في التيه، فلما ندموا ألطف الله لهم بالغمام، وأنزلنا عليكم المن والسلوى كرامة لهم ومعجزة لنبيهم، والمن: الترنجبين، وكان كالعسل الجامس حلاوة، وكان يقع على أشجارهم بالأسحار، والسلوى: طائر كالسماني، والواحدة: سلواة، وأنشد الليث :
كما انتفض السلواة من بلل القطر
قال : كان الله عز وجل يبعث سحابة فتمطر لهم السماني. مقاتل
وقوله: (كلوا) أي: وقلنا لهم (كلوا من طيبات) حلالات (ما رزقناكم) والطيب: الحلال؛ لأنه طاب، وأصل الحرام يكون خبيثا، وأصل الطيب: الطاهر، وسمي الحلال طيبا لأنه طاهر لم يتدنس بكونه حراما، (وما ظلمونا) أي: ما نقصونا وما ضرونا بالمعصية وإبائهم دخول تلك القرية، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون أي: ولكن ظلموا أنفسهم، ونقصوا حظها باستيجابهم عذابي.