الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم  وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم  

                                                                                                                                                                                                                                      لقد تاب الله على النبي يعني: من إذنه للمنافقين في التخلف، وذكرنا ذلك عند قوله: عفا الله عنك ، وقوله: والمهاجرين والأنصار يعني من هم منهم بالتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذين اتبعوه ساروا معه إلى تبوك، في ساعة العسرة يعني: عسرة الظهر وعسرة الماء وعسرة الزاد، كان العشرة يخرجون على بعير يتعقبونه وربما مص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها بينهم، وكانوا يعصرون الفرث ويشربونه من العطش، وقوله: من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم يميل بعضهم إلى التخلف والعصيان، قال الكلبي: هم ناس من المسلمين بالتخلف ثم لحقوه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج: من بعد ما كادوا ينصرفون عن غزوتهم للشدة، ليس أنه زائغ عن الإيمان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ حمزة يزيغ بالياء، قال الفراء: الفعل المسند إلى المؤنث إذا تقدم عليه جاز تذكيره وتأنيثه، فذكر يزيغ كما ذكر كاد لتشابه الفعلين، وقوله: ثم تاب عليهم كرر ذكر التوبة لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم، فقدم الله تعالى ذكر التوبة فضلا منه، ثم ذكر ذنبهم، ثم أعاد ذكر التوبة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وعلى الثلاثة الذين خلفوا قال ابن عباس، ومجاهد: خلفوا عن التوبة عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وهؤلاء هم المعنيون بقوله: وآخرون مرجون لأمر الله .

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد، نا محمد بن حماد، نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، في قوله: وعلى الثلاثة الذين خلفوا قال: هم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية كلهم من الأنصار   [ ص: 530 ] وأما قصة توبة الله على هؤلاء فهي ما.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي، أنا أبو بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى، نا الفضل بن محمد بن المسيب البيهقي، نا أبو عبد الله أحمد بن حنبل، نا يعقوب، نا ابن أخي الزهري، عن عمه، وأخبرنا أبو عبد الله بن أبي إسحاق المزكي، نا عبد الملك بن الحسن بن يوسف السقطي، نا يوسف بن يعقوب القاضي، نا محمد بن أبي ذر المقدمي، نا عبد الغفار بن عبيد الله، نا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، وأخبرنا الحسن بن محمد الفارسي واللفظ له، أنا أبو عبد الله بن محمد بن الفضل التاجر، أنا أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، أنا محمد بن يحيى، نا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، قال محمد بن يحيى: وحدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني، نا موسى بن أعين، نا إسحاق بن راشد، أن الزهري حدثه، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، قال: سمعت أبي كعب بن مالك يقول: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك إلا بدرا، ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحدا تخلف عن بدر، وإنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغيثين لعيرهم فالتقوا على غير موعد كما قال الله تعالى، وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حيث تواثقنا على [ ص: 531 ] الإسلام ثم لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد في غزوة غزاها، حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها وآذن النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالرحيل،  وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوهم وذلك حين طاب الظلال وطابت الثمار، وقل ما أراد غزوا، إلا وارى خبرها ويقول: الحرب خدعة، وقال عبد الرزاق: إلا ورى بغيرها، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أن يتأهب الناس أهبتهم، وأنا أيسر ما كنت قد جمعت راحلتين، وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد وخفة الحاذ، وأنا في ذلك أصغو إلى الظلال وطيب الثمار فلم أزل كذلك حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم غاديا بالغداة، وذلك يوم الخميس، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس فأصبح غاديا، قلت: أنطلق غدا إلى السوق فأشتري جهازي ثم ألحق بهم فانطلقت إلى السوق من الغد فعسر علي بعض شأني، فرجعت، فقلت: أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم فعسر علي بعض شأني أيضا فلم أزل كذلك، حتى التبس بي الذنب وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلت أمشي في الأسواق وأطوف بالمدينة فيحزنني أنني لا أرى أحدا إلا رجلا مغموضا عليه في النفاق وكأن ليس أحد تخلف إلا رأى أن ذلك سيغفر له، وكان الناس كثيرا لا يجمعهم ديوان وكان جميع من تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم بضعا وثمانين رجلا، ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فلما بلغ تبوك قال: ما فعل كعب بن مالك؟ قال رجل من قومي: خلفه يا نبي الله برداه والنظر في عطفيه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت والله يا نبي الله ما نعلم إلا خيرا، فبينما هم كذلك إذ هم برجل يزول به السراب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة، فإذا هو أبو خيثمة فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك ودنا من المدينة جعلت أتذكر بماذا أخرج من سخط النبي صلى الله عليه وسلم وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي حتى إذا قيل: هذا النبي صلى الله عليه وسلم مصبحكم بالغداة زاح عني الباطل وعرفت أني لا أنجو إلا بالصدق ودخل النبي صلى الله عليه وسلم ضحى فصلى في المسجد ركعتين، وكان إذا جاء من سفر فعل ذلك، دخل المسجد فصلى ركعتين ثم جلس، فجعل يأتيه من تخلف فيحلفون له ويعتذرون إليه فيستغفر لهم، ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله سبحانه وتعالى، فدخلت المسجد فإذا هو جالس فلما رآني تبسم تبسم المغضب، فجئت فجلست بين يديه فقال: ألم تكن ابتعت ظهرا؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: فما خلفك؟ قلت: والله لو بين يدي أحد من الناس غيرك جلست لخرجت من سخطه علي بعذر لقد أوتيت جدلا ولكن قد علمت يا نبي الله، أني إن أخبرك اليوم بقول تجد علي فيه وهو حق فإني أرجو فيه عفو الله، وإن حدثتك اليوم حديثا ترضى عني فيه وهو كذب، أوشك الله أن يطلعك علي، والله ما كنت قط أيسر ولا أخف حاذا مني حيث تخلفت عنك، فقال: أما هذا فقد صدقكم الحديث قم عني حتى يقضي الله فيك فقمت فثار على أثري ناس من قومي يؤنبونني فقالوا: والله ما نعلمك أذنبت ذنبا قبل هذا فهلا اعتذرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعذر يرضى عنك فيه؟ وكان استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتي من وراء ذنبك، ولم تقف نفسك موقفا لا تدري ماذا يقضي لك فيه فلم يزالوا يؤنبوني، حتى هممت أن أرجع، فأكذب نفسي فقلت: هل قال هذا القول أحد غيري؟ قالوا: نعم قاله هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، فذكروا رجلين صالحين قد شهدوا بدرا لي فيهما أسوة، فقلت: لا والله لا أرجع إليه في هذا أبدا ولا أكذب نفسي، قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة، ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا فاجتنب الناس كلامنا، ولبثت كذلك حتى طال علي الأمر وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي علي، قال: فجعلت أخرج إلى السوق ولا يكلمني أحد، وتنكر لنا الناس حتى ما هم بالذي نعرف، وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالحيطان التي نعرف، وتنكرت لنا الأرض حتى ما هي بالأرض التي نعرف، وكنت أقوى أصحابي فكنت أخرج فأطوف في الأسواق وآتي المسجد فأدخل وآتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه فأقول: هل حرك شفتيه بالسلام؟ فإذا قمت أصلي إلى سارية نظر إلي بمؤخر عينيه فإذا نظرت إليه أعرض عني واستكان صاحباي فجعلا يبكيان الليل والنهار لا يطلعان رءوسهما.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: فبينما أنا أطوف بالسوق إذا برجل نصراني جاء بطعام له يبيعه يقول: من يدل على كعب بن [ ص: 532 ] مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلي فأتاني بصحيفة من ملك غسان فإذا فيها: أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك ولست بدار مضيعة ولا هوان، فالحق بنا نواسك، فقلت: هذا أيضا من البلاء والشر فسجرت التنور وأحرقتها فلما مضت أربعون ليلة إذا رسول من النبي صلى الله عليه وسلم أتاني فقال: اعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها؟ قال: لا ولكن لا تقربنها فجاءت امرأة هلال بن أمية فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضعيف فهل تأذن لي أن أخدمه؟ قال: نعم ولكن لا يقربنك، قالت: يا نبي الله والله ما به حركة لشيء ما زال مكبا يبكي الليل والنهار منذ كان من أمره ما كان، قال كعب: فلما طال علي البلاء اقتحمت على أبي قتادة حائطه وهو ابن عمي فسلمت عليه فلم يرد علي، فقلت: أنشدك الله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسوله؟ فسكت عني حتى قلت ثلاثا.

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو قتادة في الثالثة: الله ورسوله أعلم فلم أملك نفسي أن بكيت ثم اقتحمت من الحائط خارجا حتى مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا فصليت على ظهر بيت لنا صلاة الفجر ثم جلست وأنا بالمنزلة التي قال الله تعالى: قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت علينا أنفسنا إذ سمعت نداء من ذروة سلع أن أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجدا وعلمت أن الله تعالى قد جاء بالفرج، ثم جاء رجل يركض على فرس يبشرني فكان الصوت أسرع من فرسه، فأعطيته ثوبي بشارة ولبست ثوبين آخرين، قال: وكانت توبتنا نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث الليل، فقالت أم سلمة: يا رسول الله ألا تبشر كعب بن مالك؟ فقال: إذن يحطمكم الناس ويمنعوكم النوم سائر الليل، فكانت أم سلمة محسنة في شأني تحزن لأمري، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر، وكان إذا سر بالأمر استنار فجئت فجلست بين يديه فقال: أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك، فقلت: يا نبي الله أمن عند الله أم من عندك؟ قال: بل هو من عند الله ثم تلا عليهم لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الآيات، وفينا أنزلت أيضا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين فقلت: يا نبي الله إن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: أمسك عليك بعض مالك فإنه خير لك، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر قال: فما أنعم الله علي نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدقته أنا وصاحباي، وألا نكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا، وإني لأرجو أن لا يكون الله أبلى أحدا في الصدق مثل الذي أبلاني، ما تعمدت الكذبة بعد وأرجو أن يحفظني الله فيما بقي "
                                                                                                                                                                                                                                      قال الزهري: فهذا ما انتهى إلينا من حديث كعب بن مالك وقوله: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت قال المفسرون: ضيق الأرض عليهم بأن المؤمنين [ ص: 533 ] منعوا من كلامهم ومعاملاتهم، وأمر أزواجهم باعتزالهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وضاقت عليهم أنفسهم يعني: ضيق صدورهم بالهم الذي حصل فيها، وظنوا أيقنوا، أن لا ملجأ لا معتصم من الله من عذاب الله، إلا إليه الآية، ثم تاب عليهم إعادة للتوكيد لأن ذكر التوبة على هؤلاء قد مضى في قوله: وعلى الثلاثة الذين خلفوا ، ومعنى ثم تاب عليهم ليتوبوا لطف لهم في التوبة ووفقهم لها.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية