الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون  قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم  فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون  قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين  قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ولما فصلت العير يقال: فصل فلان من عند فلان فصولا.

                                                                                                                                                                                                                                      إذا خرج من عنده، قال المفسرون: لما خرجت العير من مصر متوجهة إلى كنعان قال أبوهم لمن حضره من أهله وقرابته وولد ولده وأولاده كانوا غائبين عنه إني لأجد ريح يوسف قال ابن عباس: هاجت ريح فحملت قميص يوسف إلى يعقوب وبينهما مسيرة ثماني ليال، وقال مجاهد: هبت ريح فضربت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا، واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص فمن ثم قال: إني لأجد ريح يوسف وذكر في القصة: أن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير بالقميص فأذن لها، فأتته بها ولذلك يستروح كل محزون بريح الصبا، ويتنسمها المكربون فيجدون لها روحا، وقد أكثر الشعراء ذكرها في أشعارهم، وهي تأتي من ناحية الشرق، وفيها لين إذا هبت على الأبدان نعمتها ولينتها، وهيجت الأشواق إلى الأحباب، والحنين إلى الأوطان، قال أبو صخر الهذلي:


                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 633 ] إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      أيا جبلي نعمان بالله خليا     نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها
                                                                                                                                                                                                                                      فإن الصبا ريح إذا ما تنفست     على نفس مهموم تجلت همومها

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      ولقد تهب لي الصبا من أرضها     فيلذ مس هبوبها ويطيب لي
                                                                                                                                                                                                                                      يندي على كبدي وينقح غلتي     ويبل حر فؤادي المشتعل

                                                                                                                                                                                                                                      .

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا عبد القاهر البغدادي، نا بشر بن أحمد، نا محمد بن يحيى، نا عاصم بن علي، أنا شعبة، عن أبي سنان ضرار بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن أبي الهذيل يحدث، عن ابن عباس في قوله إني لأجد ريح يوسف ، قال: وجد ريحه من مسيرة ما بين البصرة والكوفة  وقوله: لولا أن تفندون الفند: ذهاب العقل من الهرم، يقال: أفند الرجل.

                                                                                                                                                                                                                                      إذا خرف وتغير عقله، وفنده إذا نسبه إلى الجهل والخرق ، قال أبو عبيدة: لولا أن تسفهوني.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج: لولا أن تجهلوني.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد: لولا أن تقولوا ذهب عقلك.

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم قال مقاتل، وغيره: معنى الضلال هاهنا الشقاء.

                                                                                                                                                                                                                                      يعنون: شقاء الدنيا وهو ما يكابد من الأحزان على يوسف، وقال قتادة: في حبك ليوسف ما تنساه ولا تسلاه.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا كقوله: إن أبانا لفي ضلال مبين وقد مر، وقال الحسن: إنما قالوا هذا لأنه كان عندهم أن يوسف قد مات، وأن يعقوب بولوعه بذكره ذاهب عن الصواب.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فلما أن جاء البشير الآية، قال المفسرون: البشير كان يهوذا بن [ ص: 634 ] يعقوب، قال: إني جئته بالقميص ملطخا بالدم فأعطني اليوم قميصك لأخبره أنك حي فأفرحه كما أحزنته، فحمل القميص وخرج حاسرا حافيا يعدو، وكان معه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى بلغ كنعان، وكانت المسافة ثمانين فرسخا، فلما أتى أباه ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال الضحاك: رجع إليه بصره بعد العمى، وقوته بعد الضعف، وشبابه بعد الهرم، وسروره بعد الحزن.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عباس: في قوله فارتد بصيرا انجلى البياض وذهبت الظلمة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى الارتداد: انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها، والمعنى: عاد ورجع إلى حال البصر.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد الأصبهاني، أنا عبد الله بن محمد بن حيان، نا عبد الرحمن بن محمد الرازي، نا سهل العسكري، نا يحيى بن يمان، عن سفيان، قال: لما جاء البشير يعقوب قال: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمت النعمة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون تقدم تفسيره، ثم سألوا أباهم أن يستغفر الله لهم ما آتوا إليه من إدخال الحزن عليه، وهو قوله: قالوا يا أبانا استغفر لنا الآية، قال يعقوب سوف أستغفر لكم ربي قال ابن عباس: أخر دعاءه إلى السحر،  وهو قول ابن مسعود، وقتادة، والسدي، وقال في رواية الكلبي، وعكرمة: يقول حتى تأتي يوم الجمعة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج: أراد يعقوب أن يستغفر لهم في وجه السحر في الوقت الذي هو أخلق لإجابة الدعاء، لا لأنه ضن عليهم بالاستغفار.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أحمد بن محمد بن الحارث، أنا عبد الله بن محمد الحافظ، نا عبد الرحمن بن محمد الرازي، نا سهل بن عثمان، نا أبو مالك، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: لم أخر يعقوب عن بنيه الاستغفار؟ قال: " أخرهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجاب "  قالوا: وكان يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب جهازا ومائتي راحلة، وسأله أن يأتيه بأهله وولده أجمعين، فتهيأ يعقوب للخروج إلى مصر، فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الأكبر الذي فوقه، فخرج يوسف في أربعة من الجند، وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب، فلما نظر يعقوب إلى الخيل قال لابنه يهوذا: هذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ابنك.

                                                                                                                                                                                                                                      فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه قصد يوسف أن يبدأه بالسلام، فمنع من ذلك، وكان يعقوب أفضل وأحق بذلك منه، فابتدأ يعقوب بالسلام، فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو القاسم محمد بن علي الصوفي الكوفي، أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن يوسف، نا العباس بن محمد [ ص: 635 ] بن الحسن بن قتيبة، نا أبو بكر محمد بن يزيد المستملي، نا بشر بن الحارث، نا أبو بكر بن عياش، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لما جمع الله بين يوسف ويعقوب عليهما السلام أقبل يوسف، فقال: يا أبت حزنت علي حتى انحنيت؟ قال: نعم فقال: بكيت علي حتى ذهب بصرك؟ قال: نعم، قال: أما علمت أن القيامة تجمعني وإياك؟ قال: أي بني إني خشيت أن يسلب دينك فلا نجتمع.  

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية