الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 630 ] فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين  قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون  قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين  قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين  قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين  اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين  

                                                                                                                                                                                                                                      فلما دخلوا عليه أي: على يوسف قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر أي: أصابنا ومن يختص بنا الجوع والحاجة وجئنا ببضاعة مزجاة الإزجاء في اللغة: السوق والدفع قليلا قليلا، ومنه قوله: ألم تر أن الله يزجي سحابا قال ابن عباس: كانت دراهم رديئة زيوفا لا تنفق في ثمن الطعام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحسن، والكلبي، ومجاهد: كانت خلق الغيار والحبل والأقط، وقال مقاتل: وكانت حبة الخضراء.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: جئنا ببضاعة تتدافع بها الأيام وتتقوت ليست مما يتسع به، وقال أبو عبيد: إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم سألوه مساهلتهم في النقد وإعطائهم بدراهمهم مثل ما يعطى بالجياد، وهو قوله: فأوف لنا الكيل أتمه ولا تنقصه بسبب رداءة دراهمنا وتصدق علينا سامحنا بما بين النقدين وسعر لنا بالرديء كما تسعر بالجيد إن الله يجزي المتصدقين بالثواب فلما قالوا ليوسف: مسنا وأهلنا الضر رحمهم، وأدركته الرقة فدمعت عينه وقال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف قال ابن الأنباري: هذا الاستفهام يعني به تعظيم القصة وتوبيخهم عليها، ومعناه: ما أعظم ما ارتكبتم من يوسف وما أقبح ما أتيتم من قطيعة رحمه وتضييع حقه كما تقول: هل تدري من عصيت؟ وهذه الآية تصديق قوله: لتنبئنهم بأمرهم هذا ، وقوله: وأخيه يعني: ما فعلوه به بإدخال الهم والجزع بإفراده عن أخيه، ولم يذكر أباه يعقوب مع عظم ما دخل عليه من الغم بفراقه تعظيما ورفعا من قدره، وعلما أن ذلك كان له بلاء من الله ليزيد في درجته عنده، وقوله: إذ أنتم جاهلون أي: بعقوق أبيكم وقطع رحم أخيكم، يعني فعلتم ذلك جهلا منكم، وروي عن ابن عباس: إذ أنتم صبيان.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن الحسن: شبان.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا يراد جهالة الصبي فالشاب، قال الضحاك: لما قال لهم يوسف: هل علمتم الآية، تبسم فلما أبصروا ثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم شبهوه بيوسف، فقالوا له: أإنك لأنت يوسف قال [ ص: 631 ] أنا يوسف قال ابن الأنباري: أظهر الاسم ولم يقل: أنا هو تعظيما لما وقع به من ظلم إخوته، كأنه قال: أنا المظلوم المستحل منه المحرم المراد قتله، فكفى ظهور الاسم من هذه المعاني.

                                                                                                                                                                                                                                      ولهذا قال: وهذا أخي وهم يعرفونه لأن قصده: وهذا المظلوم كظلمي قد من الله علينا قال ابن عباس: بكل خير في الدنيا والآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال آخرون: بالجمع بيننا بعد التفرقة إنه من يتق ويصبر قال ابن عباس: من يتق الله ويصبر على المصائب وعن المعاصي.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مقاتل: من يتق الزنا ويصبر على الأذى.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن الله لا يضيع أجر المحسنين أجر من كان هذا حاله.

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا تالله لقد آثرك الله علينا بالعلم والحلم والعقل والحسن والملك وإن كنا لخاطئين قال ابن عباس: لمذنبين آثمين في أمرك.

                                                                                                                                                                                                                                      قال لا تثريب عليكم اليوم لا تعيير ولا توبيخ، يقال: ثربه.

                                                                                                                                                                                                                                      إذا عيره، وروى ابن الأنباري، عن ثعلب: ثرب فلان على فلان إذا عدد عليه ذنوبه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس: يريد لا لوم عليكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكلبي: لا أعيركم بعد اليوم بهذا أبدا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن الأنباري: أي: قد انقطع عنكم توبيخي عند اعترافكم بالذنب.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز الوقف عند الأخفش على قوله: عليكم ثم يقول: اليوم يغفر الله لكم فيعلق اليوم بالغفران، وذكره ابن الأنباري أيضا، قال ابن عباس: جعلهم في حل وسأل الله لهم المغفرة، وأخبرنا أن الله أرحم بأوليائه من الوالدين بولدهما.  

                                                                                                                                                                                                                                      وهو قوله: وهو أرحم الراحمين ولما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه فقال: ما فعل أبي بعدي؟ قالوا: ذهبت عيناه.

                                                                                                                                                                                                                                      فأعطاهم قميصه، فهو قوله: اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان من شأن ذلك القميص ما

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر، أنا أبو علي بن أبي بكر الفقيه، أنا أبو لبابة محمد بن المهدي، نا عمار بن الحسن، نا شجاع بن أبي نصر، عن عباد بن كثير، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أما قوله: اذهبوا بقميصي هذا فإن نمروذ الجبار لما ألقى إبراهيم في النار نزل إليه جبريل عليه السلام بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة، فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه فكسى إبراهيم ذلك القميص إسحاق، وكساه إسحاق يعقوب، وكساه يعقوب يوسف فجعله في قصبة من فضة وعلقها في عنقه، فألقي في الجب والقميص في عنقه فذلك قوله اذهبوا بقميصي هذا  الآية ونحو هذا قال عامة المفسرين، قال ابن عباس: أخرج لهم قصبة من فضة كانت في عنقه لم يعلم بها إخوته [ ص: 632 ] فيها قميص، وهو الذي نزل به جبريل على إبراهيم.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر القصة، وقال مجاهد: أمره جبريل أن أرسل إليه قميصك فإن فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا صح وعوفي، وقال الحسن: لولا أن الله أعلمه لم يدر أنه يرجع إليه بصره.

                                                                                                                                                                                                                                      فذلك قوله: يأت بصيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس: يرتد بصيرا ويذهب البياض الذي على عينيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال السدي: يعد بصيرا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفراء: يرجع بصيرا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وأتوني بأهلكم أجمعين قال الكلبي: وكان أهله نحوا من سبعين إنسانا، وقال مسروق: دخل أهل يوسف مصر وهم ثلاثة وتسعون من رجل وامرأة.  

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية