الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا  ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا  وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا  وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا  وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا  

                                                                                                                                                                                                                                      أقم الصلاة لدلوك الشمس دلوك الشمس زوالها وميلها في وقت الظهر، وكذلك ميلها للغروب هو دلوكها أيضا، قال المبرد : دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها عند العرب.

                                                                                                                                                                                                                                      والمفسرون مختلفون فيه، فقوم يقولون: دلوكها زوالها، وهو قول الحسن ، والشعبي ، وعطاء ، ومجاهد ، وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قوم: دلوكها غروبها، وهو قول ابن مسعود ، وعلي ، والسدي ، وابن عباس ، في رواية سعيد بن جبير .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الأزهري : معنى الدلوك [ ص: 121 ] في كلام العرب الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار: دالكة، وقيل لها إذا أفلت: دالكة; لأنها في الحالتين زائلة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: والقول عندي: إن زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: أقم الصلاة من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل  ، فتدخل فيها الأولى، والعصر، وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال: وقرآن الفجر فهذه خمس صلوات، ومعنى غسق الليل سواده وظلمته، قال ابن جريج : قلت لعطاء : ما غسق الليل؟ قال: أوله حين يدخل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن مسعود : غسق الليل إظلامه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الفراء ، والزجاج : يقال: غسق الليل أغسق إذا أقبل ظلامه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وقرآن الفجر قال ابن عباس ، والمفسرون: يريد صلاة الصبح.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : أي وأقم قرآن الفجر، قال: وفي هذا فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون بقراءة حيث سميت الصلاة قرآنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إن قرآن الفجر كان مشهودا كلهم قالوا: صلاة الفجر، تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الفارسي ، نا أبو الفضل محمد بن عبد الله بن خميرويه ، نا أبو الحسن علي بن محمد الخزاعي ، نا أبو اليمان ، أخبرني شعيب ، عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة ، أن أبا هريرة ، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "تفضل صلاة الجماعة صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا، وتجتمع ملائكة الليل، وملائكة النهار في صلاة الفجر"  ، ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا .

                                                                                                                                                                                                                                      رواه البخاري ، عن أبي اليمان ، قوله: ومن الليل فتهجد به ، قال ابن عباس : فصل بالقرآن، وقال مجاهد وعلقمة والأسود : التهجد بعد النوم، قال الليث : تهجد إذا استيقظ للصلاة، وقال الأزهري : المتهجد القائم إلى الصلاة من النوم، وقيل له: متهجد لإلقائه الهجود عن نفسه، كما يقال: تخرج وتأثم وتحوب [ ص: 122 ] وقوله: نافلة لك معنى النافلة في اللغة ما كان زيادة على الأصل، وصلاة الليل كانت زيادة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، لرفع الدرجات لا للكفارات; لأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وليست لنا بنافلة.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا قول جميع المفسرين، قوله: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا قال ابن عباس : عسى من الله واجبة، يريد أعطاك الله يوم القيامة مقاما محمودا يحمدك فيه الأولون والآخرون، تشرف على جميع الخلائق، وتسأل فتعطى، وتشفع فتشفع، وليس أحد إلا تحت لوائك.

                                                                                                                                                                                                                                      وإجماع المفسرين على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة، ومعنى يبعثك ربك مقاما: يقيمك في ذلك المقام.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم الفارسي ، أنا أبو عمرو بن مطر ، نا عبدان الجواليقي ، نا أبو بكر ابن أبي شيبة ، نا وكيع ، عن إدريس الأودي ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا الشفاعة.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو الفتح محمد بن علي الكوفي ، أنا أبو علي الحسن بن أحمد بن سليمان ، نا الفضل بن الخصيب ، نا محمد بن هارون الرازي ، نا أبو أسامة ، نا داوود الأودي ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في قوله: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا  ، قال: هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي قوله وقل رب أدخلني مدخل صدق روى قابوس بن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه هذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: أدخلني المدينة ، وأخرجني من مكة ، والمدخل والمخرج بمعنى المصدر، وإضافتهما إلى الصدق مدح لهما، وكل شيء أضفته إلى الصدق فهو مدح، نحو قوله: قدم صدق ، مقعد صدق ، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا حجة بينة تنصرني بها على جميع من خالفني.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وقل جاء الحق وزهق الباطل قال السدي : الحق الإسلام، والباطل الشرك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قتادة : الحق القرآن، والباطل الشيطان.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى زهق: بطل واضمحل، وكل شيء هلك وبطل فقد زهق.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا محمد بن أبي بكر المطوعي ، أنا محمد بن أحمد بن علي الحيري ، أنا أحمد بن علي بن المثنى ، نا أبو خيثمة ، نا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود ، قال: دخل النبي، صلى الله عليه وسلم، مكة وحول البيت ثلات مائة وستون صنما، فجعل يطعنها، ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا.  

                                                                                                                                                                                                                                      رواه البخاري ، [ ص: 123 ] عن علي ابن المديني ، ومسلم ، عن أبي بكر ابن أبي شيبة كلاهما، عن سفيان وقوله: إن الباطل كان زهوقا قال ابن عباس : يريد كل ما كان عن الشيطان، كان خارجا عن الحق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وننزل من القرآن من هذا الجنس الذي هو القرآن، ما هو شفاء فجميع القرآن شفاء للمؤمنين، قال قتادة : إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا معنى كونه شفاء، أنه ببيانه يزيل عمى الجهل وحيرة الشك، فهو شفاء من داء الجهل، وقال ابن عباس : يريد شفاء من كل داء، وعلى هذا معناه أن يتبرك به، فيدفع الله به كثيرا من المكاره والمضار.

                                                                                                                                                                                                                                      ويؤكد هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من لم يستشف بالقرآن، فلا شفاه الله" .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ورحمة للمؤمنين قال ابن عباس : يريد ثوابا لا انقطاع له، يعني في تلاوته يرحمهم الله بها، ويثيبهم عليها، ولا يزيد القرآن، الظالمين المشركين، إلا خسارا لأنهم يكفرون به ولا ينتفعون بمواعظه، فالقرآن سبب لهداية المؤمنين، وزيادة لخسارة الكافرين.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو القاسم بن عبدان ، نا محمد بن عبد الله الضبي ، أخبرني الحسن بن محمد بن حكيم المروزي ، نا أبو الموجه ، أنا عبدان ، نا عبد الله بن المبارك ، أنا جعفر بن سليمان ، عن الجريري ، عن أبي نضرة العبدي ، عن أسير بن جابر ، عن أويس القرني ، قال: لم يجالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان  ، قضاء من الله الذي قضى شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية