الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا  كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا  ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا  وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا  لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي [ ص: 148 ] أحدا  ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا  فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا  أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا  وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا  ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: واضرب لهم مثلا رجلين قال عطاء ، عن ابن عباس : يريد ابني ملك كان في بني إسرائيل، توفي وترك ابنين، فاتخذ أحدهما الجنان والقصور، والآخر كان زاهدا في الدنيا  ، راغبا في الآخرة، فكان إذا عمل أخوه شيئا من زينة الدنيا، أخذ مثل ذلك فقدمه لآخرته، وأخذ به عند الله الجنان والقصور، حتى نفد ماله، فضربهما الله تعالى مثلا للمؤمن والكافر الذي أبطرته النعمة.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو قوله: جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل الحف الإحاطة بالشيء، ومنه قوله: حافين من حول العرش .

                                                                                                                                                                                                                                      يقال: جعلنا النخل مطيفا بهما، وجعلنا بينهما بين الجنتين، زرعا .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أخبر أنهما كانا يؤديان حملهما من نخلهما وأعنابهما، والزرع الذي كان بينهما، قال: كلتا الجنتين آتت أكلها أي: آتت صاحبها أكلها، وهو ما يؤكل منها من الريع، ولم تظلم منه شيئا لم تنقص، يقال: ظلمه حقه أي نقصه، وفجرنا خلالهما أنبطنا وأخرجنا وسط الجنتين، نهرا وكان له للأخ الكافر، ثمر قال الوالبي : مال.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد : ذهب وفضة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قتادة : من كل المال.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ ثمر وثمر بضم الثاء وسكون الميم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الليث: الثمر حمل الشجر، والثمر أنواع المال، يقال: أثمر الرجل إذا كثر ماله، وثمر الله مال فلان كثره.

                                                                                                                                                                                                                                      والثمر تخفيف الثمر، مثل عنق وعنق، المفسرون على أن الثمر هاهنا الأموال.

                                                                                                                                                                                                                                      فقال لصاحبه لأخيه، وهو يحاوره يراجعه الكلام، ويجاوبه، أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا النفر والقوم والرهط معناها الجمع، لا واحد لها من لفظها، قال ابن عباس : يريد كثرة العبيد، وعزه فيهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قتادة : وتلك والله أمنية الفاجر، كثرة المال، وعزة النفر، وهم الخدم والحشم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال غيره: يعني عشيرة ورهطا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ودخل جنته قال المفسرون: أخذ بيد أخيه المسلم، فأدخله جنته، يطوف به فيها، ويريه إياها، ويعجبه [ ص: 149 ] منها.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو ظالم لنفسه بالكفر بالله، قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا أنكر فناء الدنيا، وفناء جنته.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنكر البعث، والثواب والعقاب، بقوله: وما أظن الساعة قائمة قال الزجاج : أخبر أخاه بكفره بفناء الدنيا، وقيام الساعة، ولئن رددت إلى ربي الآية، قال ابن عباس : يريد إن كان البعث حقا.

                                                                                                                                                                                                                                      لأجدن خيرا منها منقلبا أي: كما أعطاني هذه في الدنيا، سيعطيني في الآخرة أفضل منه، لكرامتي عليه، ومن قرأ منهما رد الكناية إلى الجنتين اللتين تقدم ذكرهما.

                                                                                                                                                                                                                                      فأجابه صاحبه مكفرا له بما قال: أكفرت بالذي خلقك من تراب يعني أصل الخلقة، ثم من نطفة ثم سواك رجلا أكملك وجعلك معتدل الخلق والقامة.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أعلمه أنه موحد، فقال: لكنا هو الله ربي وأصله لكن أنا، فخففت الهمزة، وألقيت حركتها على النون الساكنة قبلها، فصار لكن، فأدغموا النون الأولى في الثانية، فصار لكن، ومن قرأ لكنا بإثبات ألف أنا، فإنه أثبت الألف في الوصل، كما ثبت في الوقف على لغة من يقول: أنا قمت، وهو غير مختار في القراءة.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أقبل على أخيه يلومه، قال: ولولا إذ دخلت جنتك بمعنى هلا، وتأويله التوبيخ، قلت ما شاء الله قال الفراء ، والزجاج : ما في موضع رفع على معنى الأمر ما شاء الله .

                                                                                                                                                                                                                                      أي: هلا قلت حين دخلتها: الأمر بمشيئة الله، وما شاء الله كان، يعني إن شاء إخراب هذه الجنة وإهلاكها، كان ذلك بمشيئته، لا قوة إلا بالله قال الزجاج : لا يقوى أحد على ما في يديه من ملك ونعمة إلا بالله تعالى، ولا يكون له إلا ما شاء الله.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم رجع إلى نفسه، فقال: إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا أنا عماد، وأقل مفعول ثان لترى.

                                                                                                                                                                                                                                      فعسى ربي أن يؤتين قال ابن عباس : في الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                      خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء الحسبان المرامي يرمى بها، قال النضر بن شميل : الحسبان سهام يرمي بها الرجل في جوف قصبة، ينزع في القوس، ثم يرمي بعشرين منها دفعة.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: يرسل عليها مرامي من عذابه، إما بردا، وإما حجارة، أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب، فتصبح صعيدا زلقا أرضا لا نبات فيها، والزلق المكان المزلقة، والمعنى أنها تصير جرداء لا نبات فيها.

                                                                                                                                                                                                                                      أو يصبح ماؤها يعني: النهر الذي في خلالها، غورا غائرا ذاهبا في الأرض، فلن تستطيع له طلبا لا يبقى له أثر بطلبه به.

                                                                                                                                                                                                                                      وأحيط بثمره يعني أهلك، وأحيط العذاب بأشجاره ونخيله، فأصبح الكافر، يقلب كفيه قال ابن عباس : يضرب يديه واحدة على الأخرى.

                                                                                                                                                                                                                                      وتقليب الكفين يفعله النادم كثيرا، فصار عبارة عن الندم، على ما أنفق فيها في جنته، وهي خاوية ساقطة، على عروشها سقوفها، وما عرش بكرومها، ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا أخبر الله أنه سلبه ما أنعم عليه في الدنيا، فندم حين لم تنفعه الندامة، وتمنى أنه كان موحدا غير مشرك.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله قال ابن عباس : لم ينصره النصر الذين افتخر بهم في قوله: وأعز نفرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وما كان منتصرا بأن يسترد بدل ما ذهب منه، [ ص: 150 ] وضربت هذه القصة مثلا للمؤمن والكافر، فالكافر تغره دنياه، ويتبجح بها، ويظن أنها تبقى له، والمؤمن من صبر على نوائبها، احتسابا بها جميل الآخرة، ولا يركن إليها، لما يعلم من فنائها، وسرعة انقضائها، وقبل ذكر قصة الأخوين، ذكر الله ما أعد للكافرين والمؤمنين.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم عاد الكلام إلى ما قبل القصة، فقال: هنالك قال الكلبي : يقول عند ذلك، وهو يوم القيامة.

                                                                                                                                                                                                                                      الولاية أكثر القراء على فتح الواو، والولاية نقيض العداوة، ويجوز الكسر فيها، ذكرنا ذلك في سورة الأنفال، وقوله: لله الحق من كسر القاف، جعله من وصف الله تعالى، ويدل على صحة هذه القراءة قوله: ويعلمون أن الله هو الحق المبين وقوله: ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ومن ضم القاف، جعله من وصف الولاية، وحجته قراءة أبي هنالك الولاية الحق لله قال ابن قتيبة : يريد يومئذ يتولون الله تعالى ويؤمنون به، ويتبرءون مما كانوا يعبدون.

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب آخرون إلى أن الولاية هاهنا بمعنى تولي الأمر، لا إلى معنى الموالاة، فقالوا: معنى الآية في ذلك الموطن الذي هو موطن الجزاء، لا يتمكن أحد من نصر أحد، بل الله تعالى يتولى ذلك، فينصر المؤمنين، ويخذل الكافرين، لا يملك ذلك أحد من العباد، فالولاية يومئذ تخلص له، كما قال: مالك يوم الدين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: هو خير ثوابا يقول: هو أفضل ثوابا ممن يرجى ثوابه، على تقدير لو كان يثيب غيره، هو خير ثوابا، وخير عقبا أي: عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره، فهو خير عقب طاعة وإثابة، ثم حذف المضاف إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية