الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج  ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير  وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور  

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الناس يعني: أهل مكة، إن كنتم في ريب من البعث قال ابن عباس: في شك من القيامة.

                                                                                                                                                                                                                                      فإنا خلقناكم من تراب قال الزجاج: أي تدبروا أمر خلقكم وابتدائكم فإنكم لا تجدون في القدرة فرقا بين ابتداء الخلق وبين إعادته.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو قوله: فإنا خلقناكم من تراب يعني: خلق آدم، ثم من نطفة يعني: خلق ولده، ثم من علقة وهي الدم الجامد قبل أن يبيض، وذلك أن النطفة المخلوق منها الولد تصير دما غليظا، ثم تصير لحما، وهو قوله: ثم من مضغة والمضغة: قطعة لحم، وقوله: مخلقة وغير مخلقة قال ابن الأعرابي: مخلقة قد برأ خلقه، وغير مخلقة لم تصور.

                                                                                                                                                                                                                                      قال السدي: هذا في السقط، والمرأة تسقط النطفة بيضاء، والعلقة تسقط قد صور بعضه، وتسقط وقد صور كله.

                                                                                                                                                                                                                                      فعلى هذا القول المخلقة وغير المخلقة في السقط، وذهب الأكثرون إلى أن المخلقة: ما أكمل خلقه فينفخ الروح فيه، وهو الذي يولد لتمام حيا، وما سقط كان غير مخلقة، أي غير حي بإكمال خلقه بالروح، وهذا معنى قول ابن عباس رواية عطاء، وعكرمة، والكلبي.

                                                                                                                                                                                                                                      ويدل على صحة التفسير: ما

                                                                                                                                                                                                                                      ما أخبرنا أبو بكر الحارثي، أنا محمد بن حيان، نا أبو يحيى الرازي، نا العسكري، نا ابن أبي زائدة، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه، فقال: أي رب، مخلقة أم غير مخلقة؟ فإن قيل غير مخلقة؛ قذفتها الأرحام دما ولم تكن نسمة وإن قيل مخلقة؛ قال: رب، أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ ما الأجل؟ ما الأثر؟ ما الرزق؟ بأي أرض تموت؟ فيقال: اذهب إلى أم الكتاب، فإنك تجد فيها قصة هذه النطفة فيذهب فيجدها في أم الكتاب فتخلق فتعيش من أجلها وتأكل رزقها وتطأ أثرها حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في المكان الذي ثبت لها، ثم تلا عامر: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة   .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: لنبين لكم قال ابن عباس: لنبين لكم ما تأتون وما تذرون.

                                                                                                                                                                                                                                      يعني أن الله خلق بني آدم ليبين لهم ما يحتاجون إليه في العبادة، وقال صاحب النظم: ليبين لكم أن البعث حق؛ لأن الآية نزلت دلالة على البعث.

                                                                                                                                                                                                                                      ونقر ونثبت في الأرحام ما نشاء فلا يكون سقطا إلى أجل مسمى إلى [ ص: 260 ] أجل الولادة، ثم نخرجكم طفلا قال الزجاج: طفلا في معنى أطفال.

                                                                                                                                                                                                                                      ودل عليه ذكر الجماعة، ثم لتبلغوا أشدكم فيه إضمار تقديره ثم نعمركم لتبلغوا أشدكم، يعني الكمال والقوة، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين، ومنكم من يتوفى من قبل بلوغ الأشد، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر أي: أخسه وأدونه، وهو الخرف، لكيلا يعلم من بعد علم شيئا قال ابن عباس: يبلغ السن من بعد ما يتغير عقله حتى لا يعلم شيئا.

                                                                                                                                                                                                                                      قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصير بهذه الحالة.

                                                                                                                                                                                                                                      واضح بقوله: ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات .

                                                                                                                                                                                                                                      قال: إلا الذين قرأوا القرآن.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم دلهم على إحيائه الموتى بإحيائه الأرض، فقال: وترى الأرض هامدة قال ابن عباس: هي التي تلبدت وذهب عنها الندى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد: هالكة.

                                                                                                                                                                                                                                      يعني جافة يابسة، وقال ابن قتيبة: ميتة يابسة كالنار إذا طفئت فذهبت.

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت تحركت بالنبات، وذلك أن الأرض ترتفع عن النبات، فذلك تحركها، وهو معنى قوله: وربت أي: ارتفعت وزادت، وقال المبرد: أراد واهتز وربى نباتها.

                                                                                                                                                                                                                                      فحذف المضاف، والاهتزاز في النبات أظهر، يقال: اهتز النبات إذا طال.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنبتت من كل زوج بهيج قال ابن عباس: من كل صنف حسن.

                                                                                                                                                                                                                                      والبهجة: حسن الشيء ونضارته، والبهيج: الحسن وقد بهج، ومنه قوله: حدائق ذات بهجة أي: تبهج الناظر وتمتعه برؤيتها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ذلك بأن الله أي: فعل الله ذلك، يعني: ما ذكر من ابتداء الخلق وإحياء الأرض بأنه هو الحق أي: ذو الحق، يعني أن جميع ما يأمر به ويفعله هو الحق لا الباطل، كما يأمر به الشيطان من الباطل، وأنه يحي الموتى أي: وبأنه يحيى الموتى، والمعنى: فعل ما فعل بقدرته على إحياء الموتى، وبأنه قادر على ذلك، وقادر على ما أراد، وهو قوله: وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة أي: ولتعلموا أن الساعة، آتية والمعنى: بدء الخلق وإحياء الأرض بالماء دلالة لكم لتعلموا بها أن القيامة آتية، وأن البعث حق، وهو قوله: وأن الله يبعث من في القبور .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية