وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا
ثم قال سبحانه: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ، يقول: وعهدنا إليهم في التوراة، لتفسدن لتهلكن في الأرض مرتين ، فكان بين الهلاكين مائتا سنة وعشر سنين، ولتعلن علوا كبيرا ، يقول: ولتقهرن قهرا شديدا حتى [ ص: 250 ] تذلوا، وذلك بمعصيتهم الله عز وجل.
فذلك قوله تعالى: فإذا جاء وعد أولاهما ، يعني وقت أول الهلاكين، بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ، بختنصر المجوسي ملك بابل وأصحابه، فجاسوا خلال الديار ، يعني فقتل الناس في الأزقة، وسبى ذراريهم، وخرب بيت المقدس، وألقى فيه الجيف، وحرق التوراة، ورجع بالسبي إلى بابل، فذلك قوله سبحانه: وكان وعدا مفعولا ، يعني وعدا كائنا لا بد منه، فكانوا ببابل سبعين سنة.
ثم إن الله عز وجل استنقذهم على يد كروس بن مزدك الفارس ، فردهم إلى بيت المقدس، فذلك قوله عز وجل: ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين ، حتى كثروا، فذلك قوله عز وجل: وجعلناكم أكثر نفيرا ، يعني أكثر رجالا منكم قبل ذلك، فكانوا بها مائتي سنة وعشر سنين، فيهم أنبياء.
ثم قال سبحانه: إن أحسنتم العمل لله بعد هذه المرة، أحسنتم لأنفسكم ، فلا تهلكوا، وإن أسأتم فلها ، يعني وإن عصيتم فعلى أنفسكم، فعادوا إلى المعاصي الثانية، فسلط الله عليهم أيضا أنطباخوس بن سيس الرومي ملك أرض نينوى فذلك قوله عز وجل فإذا جاء وعد الآخرة ، يعني وقت آخر الهلاكين، ليسوءوا وجوهكم ، يعني ليقبح وجوهكم، فقتلهم وسبى ذراريهم، وخرب بيت المقدس، وألقى فيه الجيف، وقتل علماءهم، وحرق التوراة، فذلك قوله عز وجل: وليدخلوا المسجد ، يعني بيت المقدس، أنطياخوس بن سيس ومن معه بيت المقدس، كما دخلوه أول مرة ، يقول: كما دخله بختنصر المجوسي وأصحابه قبل ذلك، قال سبحانه: وليتبروا ما علوا تتبيرا ، يقول عز وجل: وليدمروا ما علوا، يقول: ما ظهروا عليه تدميرا، كقوله سبحانه في الفرقان: وكلا تبرنا تتبيرا ، يعني وكلا دمرنا تدميرا.
ثم قال: عسى ربكم أن يرحمكم ، فلا يسلط عليكم القتل والسبي، ثم إن الله عز [ ص: 251 ] وجل استنقذهم على يدي المقياس، فردهم إلى بيت المقدس فعمروه، ورد الله عز وجل إليهم ألفتهم، وبعث فيهم أنبياء، ثم قال لهم: وإن عدتم عدنا ، يقول: وإن عدتم إلى المعاصي عدنا عليكم بأشد مما أصابكم، يعني من القتل والسبي، فعادوا إلى الكفر، وقتلوا يحيى بن زكريا، فسلط الله عليهم ططس بن إستاتوس الرومي ، ويقال: أصطفابوس ، فقتل على دم يحيى بن زكريا مائة ألف وثمانين ألفا من اليهود، فهم الذين قتلوا الرقيب على عيسى الذي كان شبه لهم، وسبى ذراريهم، وأحرق التوراة، وخرب بيت المقدس، وألقى فيه الجيف، وذبح فيه الخنازير، فلم يزل خرابا حتى جاء الإسلام، فعمره المسلمون، وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ، يعني محبسا لا يخرجون منها أبدا، كقوله عز وجل: للفقراء الذين أحصروا ، يعني حبسوا في سبيل الله.