الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              تهذيب الآثار للطبري

              الطبري - محمد بن جرير الطبري

              صفحة جزء
              القول في البيان عما في هذه الأخبار من الغريب

              " فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي رواه النواس بن سمعان عنه: "ما لكم تتهافتون في الكذب كما يتهافت الفراش في النار" ؟  يعني بقوله صلى الله عليه وسلم "تتهافتون" : تتساقطون، يقال منه: تهافت البق علي والذبان، فهي تتهافت تهافتا.

              وتتهافت: تتفاعل من الهفت، يقال في السالم من فعله [ ص: 151 ] بغير زيادة: هفت البق علي فهو يهفت هفتا، كما قال رؤبة بن العجاج "


              ترى بها من كل مرشاش الورق كثمر الحماض من هفت العلق

              وأما الفراش، فإنها جمع فراشة، وهي في البرد وأيام الشتاء تبدأ، فيما ذكر، دودا، فإذا انحسر البرد وأقبلت أوائل الصيف، والحر صار له أجنحة ، وإياه عنى الطرماح بقوله:


              وانساب حيات الكثيب، وأقبلت     ورق الفراش لما يشب الموقد

              وإنما قال صلى الله عليه وسلم: "كما يتهافت الفراش في النار" لأنها إذا أوقدت النار رمت بأنفسها فيها وتساقطت.

              وأما الفراش، في غير هذا، فإنها العظام الرقاق التي يركب بعضها بعضا في أعالي الخياشيم إلى الجمجمة، وكل رقيق من عظم، أو حديد، أو غيره فهو فراشة.

              ومن ذلك قيل لفراشة القفل: فراشة، لدقتها ، يقال من ذلك ضرب فلان رأس فلان فأطار فراشه، إذا أطار العظام التي ذكرت، ومنه قول نابغة بني ذبيان:


              يطير فضاضا بينها كل قونس     ويتبعها منهم فراش الحواجب

              والفراش أيضا: البقية من الماء تبقى في الغدر، يقال منه: ما بقي في الغدير إلا فراشة، إذا كان الذي بقي فيه القليل من الماء، ومنه قول ذي الرمة:

              [ ص: 152 ]

              وأبصرن أن القنع صارت نطافه     فراشا، وأن البقل ذاو ويابس

              وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أسماء ابنة يزيد: "أيها الناس، ما يحملكم على أن تتايعوا في الكذب كما يتتايع الفراش في النار"  ، فإن التتايع شبيه المعنى بالتهافت، ثم تستعمله العرب في التسرع أحيانا، وفى اللجاج أحيانا، وأحيانا في متابعة الشيء بعضه في إثر بعض، ولذلك تأول الشيباني قول رؤبة:

              فأيها الغاشي القذاف الأتيعا     إن كنت لله التقي الأطوعا
              فليس وجه الحق أن تبدعا

              أنه عنى بالأتيع الذي يتبع بعضه بعضا، وتأول أبو عبيدة معمر بن المثنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن يتتايع فيه الغيران والسكران" ، أنه بمعنى اللجاج، وتأوله آخرون أنه بمعنى التسرع.

              وكل ذلك قريب المعنى، بعضه من بعض، لأن المتسرع إلى الأمر غير متثبت فيه، كالذي يلج فيه فلا ينزع في حال ينبغي له النزوع عنه فيها، وإذا لج فيه تابع الأمر الذي هو فيه بعضه إثر بعض.

              وأما قول شهر بن حوشب: فأتاهم بعتود، فإن العتود الجذع من أولاد المعز، ومنه الخبر الذي رواه البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لأبي [ ص: 153 ] بردة بن نيار: "عد لضحية أخرى" ، قال: يا رسول الله عندي عتود جذع هي خير منها، تجمع عتدانا، وعتدا، ومن جمعه على عتدان قول الأخطل:


              واذكر غدانة عتدانا مزنمة     من الحبلق تبنى حولها الصير

              ويروى:

              واذكر غدانة عدانا مزنمة

              بإدغام التاء في الدال.

              وأما قول إبراهيم النخعي: كان لهم كلام يتكلمون به إذا خشوا، يدرءون به عن أنفسهم، فإنه عنى بقوله: يدرءون عن أنفسهم، يدفعون به عنها إذا خافوا عليها مكروها ممن لا طاقة لهم به، ومنه قول الله تعالى ذكره: قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين يعني بقوله جل جلاله: فادرءوا ، فادفعوا.

              ومنه قول الشاعر:


              أقول إذا درأت لها وضيني     أهذا دينه أبدا وديني؟

              [ ص: 154 ] ويروى:

              تقول إذا درأت

              .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية