الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              تهذيب الآثار للطبري

              الطبري - محمد بن جرير الطبري

              صفحة جزء
              وعلة قائلي هذه المقالة صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صام في سفره عام شخص لحرب قريش، فلم يفطر حتى قارب مكة ودنا من عدوه، فأفطر لما دنا منهم مريدا حربهم؛ خشية الضعف على أصحابه عند لقاء العدو صياما. قالوا: فالفطر الذي ندب إليه المسافر هو الذي يكون بتركه على تاركه من الخوف على نفسه،  ما كان على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دنوهم للقاء عدوهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما من كان غير مخوف عليه بصومه أذى ولا مكروه، ولا على أحد بسببه، فإنه غير جائز له الإفطار في شهر رمضان لسفر ولا غيره.

              [ ص: 151 ] وقد ذكرنا قبل فيما مضى قول من أباح الإفطار في شهر رمضان في السفر، وإن كان غير مخوف عليه بالصوم مكروه ولا أذى، ورأى أن الصوم له أفضل. وعلة قائلي ذلك نظيره قائلي هذه المقالة، غير أنهم جعلوا لمطيق الصوم في السفر الخيار بين الصوم والإفطار، وقالوا: أفضل الأمرين له الصوم؛ لأن الله تعالى ذكره إنما أباح له الإفطار في سفره تيسيرا عليه بقوله: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، قالوا: فإذا لم يكن عليه في الصوم عسر، فالفضل له في الصوم.

              والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: الإفطار في شهر رمضان في السفر الذي هو غير معصية لله رخصة من الله عز ذكره لعباده المؤمنين، وتيسير منه عليهم، إذا كانوا للصوم مطيقين، وعلى أنفسهم بالصوم غير خائفين، عجزا عما هو أولى بهم منه، من أداء فرائض الله، لقوله تعالى ذكره عقيب قوله: ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، فأخبره عز ذكره أنه إنما أطلق الإفطار في شهر الصوم في حال السفر والمرض، وإبدال عدة ما يفطر من ذلك من الأيام من أيام أخر من غيره، إرادة اليسر منه بنا لا العسر. فمن اختار رخصة الله له، فأفطر في حال سفره أو مرضه لم يكن معنفا، ومن اختار الصوم وهو يسر غير عسر عليه، فهو له أفضل، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صام حين شخص من مدينته متوجها إلى مكة لحرب قريش حتى بلغ عسفان أو الكديد، وصام معه أصحابه، إذ كان ذلك يسرا عليهم لا عسرا، وأنه أفطر وأمر أصحابه بالإفطار لما دنا ودنوا من عدوهم لحربهم ، [ ص: 152 ] فصار الصوم عسرا لا يسرا، إذ كان لا شك أنهم لو كانوا لقوا عدوهم فحاربوهم وهو صيام، لم يؤمن على كثير منهم الضعف ودخول الوهن عليهم في أنفسهم، فصومهم يكون سببا لعجزهم عن عدوهم، وقوة لعدوهم عليهم، فكان ذلك حالا الإفطار فيها بهم أولى من الصوم، وأفضل لهم عند الله منه، لما كانوا يرجون بالإفطار من قوة أبدانهم على حرب أعداء الله وأعدائهم، وإعلاء كلمته على كلمة الذين كفروا.

              فكذلك الحق أن يكون الصوم للمسافر في طاعة الله وفي غير معصيته أفضل له إذا كان ذلك يسرا عليه غير عسر، وأن لا يكون حرجا بالإفطار إن أفطر؛ لعموم قول الله تعالى ذكره: ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ، كل من كان على سفر في غير معصية الله، وأن يكون الإفطار له أفضل إذا كان الصوم عسرا لا يسرا، لما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إفطاره وأمره أصحابه بالإفطار عند دنوه من عدوه لحربهم، وقربه من لقائهم، ومصير الصوم فيه عسرا لا يسرا.

              وكالذي قلنا في معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالإفطار في سفرهم الذي سافروه معه في شهر رمضان حين أمرهم به، وصومه في الحال التي صام فيها هو وأصحابه، معنى قوله الذي روي عنه: "ليس من البر الصوم في السفر" ، ومعنى قوله: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" ، وذلك صوم الصائم في السفر في حال إن صام فيها ضيع بصومه فيها من فرض الله تعالى ذكره ما هو أولى [ ص: 153 ] به منه، أو خيف عليه بصومه فيها فيه من دخول المكروه عليه في نفسه، ما إصلاحه بالإفطار أوجب عليه من الصوم فيه، فيكون حينئذ بصومه فيه وقد أذن الله بالإفطار، وجعل له السبيل إلى صوم عدة الأيام التي أفطرها من أيام أخر مضيعا فرضا عليه في نفسه في حاله تلك، غير جائز له التأخير عنها، فيكون في إثمه تأخيره ذلك بصومه وترك الإفطار فيها، في معنى المفطر في الحضر، في إثمه بإفطاره في حال حرم الله عليه فيها الإفطار.

              وبنحو الذي قلنا في ذلك وردت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

              التالي السابق


              الخدمات العلمية