الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              تهذيب الآثار للطبري

              الطبري - محمد بن جرير الطبري

              صفحة جزء
              820 - حدثك يعقوب بن إبراهيم ، قال: حدثنا إسماعيل ، عن ابن عون ، عن محمد ، قال: كان يقول: "إذا بلغ الرجل أربعين، لم يحتجم" قال ابن عون: فتركت الحجامة، وكانت نعمة من الله

              [ ص: 518 ] وإن قلت: هي على الخصوص، فما الدليل على خصوصها، وأنت ممن لا يرى إحالة ظاهر إلى باطن إلا بحجة يجب التسليم لها؟

              قيل: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بذلك، إنما هو أمر ندب، لا أمر إيجاب وإلزام، وهو عام فيما ندبهم إليه من معناه.

              وذلك أنه صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالحجامة حضا منه لهم بذلك على ما فيه نفعهم وصلاح أجسامهم، ودفع ما يخاف من غائلة الدم على أبدانهم إذا كثر وتبيغ، لا على وجه إلزام فرض ذلك لهم. فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن معنى أمره صلى الله عليه وسلم أمته بإخراج ذلك من أبدانهم، إنما هو ندب منه لهم إلى استعمال ذلك، في الحين الذي إخراجه صلاح لأبدانهم وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي ذكرناه عن حميد ، عن أنس ، عنه بقوله: "إذا هاج بأحدكم الدم فليحتجم، فإن الدم إذا تبيغ بصاحبه قتله" ، ففي ذلك من قوله عليه السلام البيان البين أن معناه في أمره أمته بالحجامة  لما ذكرنا من المعاني. وإذا كان ذلك كما وصفنا، فغير بعيد ما روي عن ابن سيرين من نهيه ابن أربعين سنة عن الحجامة، وما ذكر عن ابن عون من اعتداده ترك الحجامة بعد بلوغه أربعين سنة من نعمة الله عليه من الصواب.

              وذلك أن ابن آدم، بعد بلوغه أربعين سنة، في انتقاص من عمره، وانحلال من قوى جسمه، والدم أحد المعاني التي بها قوام بدنه وتمام حياته إذا كان معتدلا فيه قدره، وفي أخذ الليالي والأيام من قوى بدن ابن الأربعين ومنته، وإنقاصها من [ ص: 519 ] جسمه، غناء له عن معونتها عليه، بما يزيده وهنا على وهن، يرد به إلى العطب والتلف إلا أن يتبيغ به الدم حتى يكون الأغلب من أمره خوف الضر بترك إخراجه، ورجاء الصلاح ببزغه، فيحق عليه حينئذ إخراجه والعمل بما ندبه إلى العمل به نبيه صلى الله عليه وسلم

              وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "احتجموا لخمس عشرة، أو سبع عشرة، أو تسع عشرة" فإن ذلك اختيار منه عليه السلام للوتر من أيام الشهر على الشفع منها، لفضل الوتر على الشفع منها

              وأما ندبه أمته إلى الاحتجام في حال انتقاص الهلال من تناهي تمامه، دون حين استهلاله وبدء نمائه، فلأن ثوران كل ثائر وتحرك كل علة مكروهة، فإنما يكون فيما يقال من حين استهلال الهلال إلى حين تناهي تمامه وانتهاء نمائه، فإذا تناهى نماؤه، وتم تمامه، استقر حينئذ كل ذلك وسكن، فكره صلى الله عليه وسلم لهم الاحتجام في الوقت المخوفة غائلته، وندبهم إلى ذلك في الحال التي الأغلب منه السلامة، إلا أن يتبيغ الدم ببعضهم في الوقت المكروه لهم الحجامة، إذا كان الأغلب من تركها السلامة، فيتقدم على الحجامة حينئذ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تبيغ بأحدكم الدم فليحتجم"

              التالي السابق


              الخدمات العلمية