ويقال لقائلي هذه المقالة: قد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس المؤمن بالذي يبيت وجاره طاو إلى جنبه، وقد علمت أن حاجة الناس إلى الغذاء الذي لا قوام لأبدانهم، ولا حياة لها إلا به، أكثر من حاجتهم إلى حيطان يحملون عليها أطراف خشبهم، لأنهم لو سكنوا بيوت الشعر والوبر، وجلود الأنعام، وغير ذلك من غير بيوت المدر، لم يكن لهم حاجة إلى جدران يحملون عليها أطراف خشبهم، وأنت ممن يرى القضاء للجار على جاره إذا امتنع من تركه يحمل خشبه على جداره، بإجباره على تركه وحمل ذلك عليه، أفترى كذلك أن يقضى عليه، إذا صح عندك أنه يبيت طاويا لعجزه عن اكتساب قوته الذي لا قوام لجسده إلا به بنفقته، ويلزمه ذلك رضي أم سخط؟
فإن قال: نعم، خرج من قول جميع الأمة، وإن قال: لا، قيل له: فأي الأمرين أعظم فقدا على الناس، القوت الذي لا يجدون منه عوضا، ولا [ ص: 796 ] بدلا، ولا بقاء لهم إلا به، أم مواضع أطراف خشب يضعونها عليها، أعظم عليهم من فقد القوت؟ تبين لكل ذي فطرة صحيحة جهله وغباؤه. فإن قال: بل فقد القوت أعظم من فقد مواضع أطراف الخشب.
قيل له: فإنك تزعم أن الذي دعاك إلى حمل الناس على أن يترك بعضهم بعضا يحمل أطراف خشبه على جدره، أن ذلك من مصالحهم، فهلا أوجبت حملهم على ما هو أعظم عليهم فقدا من مواضع أطراف الخشب في الجدر؟
ولا أحسب أحدا صحت فطرته يشكل عليه تفاوت حال المنفعتين اللتين ذكرنا، وأن أهونهما فقدا إن ألزم الحكام، أن يلزموه الناس كرها وأن يحملوهم عليه إجبارا طلب مصلحتهم، أن أعظمهما فقدا أولى وأحق أن يلزموهموه.