الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              تهذيب الآثار للطبري

              الطبري - محمد بن جرير الطبري

              صفحة جزء
              453 - حدثكموه أبو كريب ، حدثنا وكيع ، عن عكرمة بن عمار ، عن إياس بن سلمة ، عن أبيه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له غلام يسمى رباحا"   .

              أم بالذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أراد النهي عن تسمية المماليك بهذه الأسماء، ثم قبض قبل نهيه عن ذلك؟ فما معنى الخبر الذي روي عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك؟ [ ص: 282 ]

              قيل: كلا الخبرين صحيح، وليس أحدهما دافعا صاحبه ولا محيلا معناه.

              فأما الخبر الذي روي عن عمر ، وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "لئن عشت لأنهين أن يسمى نافعا، وبركة، ويسارا" ، وما أشبه ذلك فإنه جائز أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك، ثم عاش بعد حتى نهى عن التسمية بهذه الأسماء، على ما روى عنه سمرة، فسمع سمرة النهي عنها، ورواه عنه على ما سمع منه، ولم يسمع ذلك جابر ، فأدى ما سمع منه من قيله: "لئن عشت لأنهين عنه" ، وأخبر عنه أنه قبض صلى الله عليه وسلم قبل أن ينهى عنه؛ إذ لم يعلم نهيه عنه حتى قبض ومضى لسبيله.

              وذلك الواجب كان عليه أن يقول أو يفعل؛ لأن كل من علم علما، ثم لم يعلم تغير ذلك عن حاله التي علمه عليها، فله القيام بالشهادة عليه على ما علمه به، وإن كان جائزا تغيره عما كان عليه في حال علمه به.

              وذلك كالرجل يعلم وراثة رجل عن ميت له دارا أو أرضا أو غير ذلك من الأملاك، فيأتيه مدع بعد حين يدعي ذلك، ويزعم أنه له دون الذي هو في يده، فلا خلاف بين الجميع أن للذي علم وراثة ذلك الوارث عن ميته ما ادعاه المدعي، أن يشهد له بأن ذلك الذي ادعاه للذي علم وراثته عن ميته، مع جواز خروج ذلك عن ملكه، إما ببيع أو هبة، وغير ذلك من الأسباب التي تزول بها الأملاك.

              وكذلك الشهادات على الأشياء الممكن تغير أحوالها على السبيل التي وصفنا.

              فقد تبين بالذي ذكرنا أن قول جابر ما قال خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير دافع ما روى سمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولا رواية سمرة ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، محيل ما قال جابر وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كلا الخبرين صحيح معناهما، ممكن استعمالهما على الصحة. [ ص: 283 ]

              وإذ كان كذلك فخبر سلمة بن الأكوع وقوله: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلام يقال له رباح ، إن كان صلى الله عليه وسلم سمى غلامه ذلك هذا الاسم قبل نهيه عن التسمية، فلا حجة فيه لمحتج به.

              وإن تسمية المسمي مملوكه في معنى تسميته إياه بوثاب وسوار وغيرهما، فيه أن كل واحد منهما لم يأت ما يرغب له عنه، إذ كان في إطلاقه صلى الله عليه وسلم ما أطلق وحظره ما حظر، ناسخ ومنسوخ، على النحو الذي قد بيناه في كتابنا المسمى (كتاب البيان عن أصول الأحكام) .

              وكان جائزا أن تكون التسمية بهذه الأسماء التي ذكرنا أنه نهى عنها، كانت سبيل التسمية بغيرها من الأسماء، ثم نهى عنها بعد.

              وإن كان صلى الله عليه وسلم سمى غلامه بذلك بعد نهيه عن التسمية به، فذلك منه إبانة عن أن نهيه عن التسمية بذلك، وبما روي عنه أنه نهى عن التسمية به، إنما هو نهي تكره، لا نهي تحريم، على ما قد تقدم وصفناه قبل من نهيه عن أكل لحوم الضباب، وإطلاقه لآكليها أكلها على مائدته.

              وأي ذلك كان فإن في إجماع الحجة على تسمية الرجل مماليكه بهذه الأسماء -التي ذكر سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التسمية بها -غير موجبة له إثما، ولا مستوجب بها مسميه من ربه عقابا، ما ينبئ عن صحة ما قلنا من أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كان على ما ذكرنا من الكراهة لا على التحريم. [ ص: 284 ]

              وبعد، ففي تسمية عبد الله بن عمر مملوكه نافعا بنافع، وتسمية أبي أيوب الأنصاري غلامه أفلح بأفلح، بين المهاجرين والأنصار، من غير إنكار منكر ذلك عليهما، ما يوضح عن صحة ما قلنا في ذلك؛ لأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لو كان نهي تحريم؛ لم يقر المهاجرون والأنصار من ذكرنا، على التقدم على ما ثبت عندهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريمه، بل لم يكونوا هم يتقدمون على ما قد حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما قد صح عندهم تحريمه إياه.

              ولكن ذلك كان عندهم -إن شاء الله عز وجل -من رسول الله صلى الله عليه وسلم على التكره، تقدم عليه قوم وتأخر عنه آخرون، كالذي كان منهم في نهيه عن أكل لحوم الضباب، على ما قد بيناه قبل.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية