قالوا: فخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي روته عنه أنه قال لأصحابه، إذ قالوا له حين قال ما عائشة يبين حقيقة ما قلنا من التأويل في معنى قوله عليه السلام: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم من أنه مراد به: ما أنتم بأعلم، لا أنه خبر عن أنهم يسمعون أصوات بني آدم وكلامهم، قالوا: ولو كانوا يسمعون كلام الناس وهم موتى، لم يكن لقول الله تعالى، ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قال لأهل القليب: "أتكلم أجسادا لا أرواح فيها ما أنتم بأعلم بما أقول منهم، وما أنتم بأفهم له منهم" إنك لا تسمع الموتى ، ولا لقوله تعالى: إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور معنى قالوا: وفي فساد القول بأن ذلك لا معنى له، صحة القول بأن الأموات بعد مماتهم لا يسمعون من كلام الناس شيئا.
والصواب من القول في ذلك أن كلتا الروايتين اللتين ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك صحيحة ، عدول نقلتها، فالواجب على ما انتهت إليه، وقامت عليه الإيمان بها والإقرار بأن حجة خبر الواحد العدل ويعذب في قبره الكافر، ومن استحق منهم العذاب كيف أراد، على ما جاءت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآثار وصحت به الأخبار. الله يسمع من شاء من خلقه من بعد مماته ما شاء من كلام خلقه من بني آدم وغيرهم على ما شاء، ويفهم من شاء منهم ما شاء، وينعم من أحب منهم بما أحب،
وليس في قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ، ولا في قوله: إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور [ ص: 519 ] حجة لمن احتج به في دفع ما صحت به الرواية، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لأصحابه إذ قالوا له في خطابه أهل القليب بما خاطبهم به: ، ولا في إنكار ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله لأصحابه مخبرهم عن الميت في قبره: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" ، إذ كان قوله: "إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين" وما أنت بمسمع من في القبور ، وقوله: إنك لا تسمع الموتى ، محتملا من التأويل أوجها سوى التأويل الذي تأوله الموجه تأويله إلى أنه لا ميت يسمع من كلام الأحياء شيئا.
فمن ذلك أن يكون معناه: فإنك لا تسمع الموتى بطاقتك وقدرتك، إذ كان خالق السمع غيرك، ولكن الله تعالى ذكره هو الذي يسمعهم إذا شاء، إذ كان هو القادر على ذلك دون من سواه من جميع الأنبياء، وذلك نظير قوله: وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم .
وذلك أن فنفى جل ثناؤه عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون قادرا أن يسمع الموتى إلا بمشيئته، كما نفى أن يكون قادرا على هداية الضلال إلى سبيل الرشاد إلا بمشيئته وذلك يبين أنه كذلك في قوله: الهداية من الكفر إلى الإيمان والتوفيق للرشاد بيد الله دون من سواه، إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور ، أنه جل ثناؤه أثبت لنفسه من القدرة على إسماع من شاء من خلقه، بقوله: إن الله يسمع من يشاء ، ثم نفى عن محمد صلى الله عليه وسلم القدرة على ما أثبته وأوجبه لنفسه من ذلك، فقال له: وما أنت بمسمع من في القبور ، ولكن الله هو المسمعهم دونك، وبيده الإفهام والإرشاد والتوفيق، وإنما أنت نذير، فبلغ ما أرسلت به.
فهذا أحد أوجهه.
[ ص: 520 ] والثاني: أن يكون معناه: فكذلك هؤلاء الذين كتب ربك عليهم أنهم لا يؤمنون، لا يسمعهم دعاؤك إلى الحق إسماعا ينتفعون به؛ لأن الله تعالى ذكره قد ختم عليهم أن لا يؤمنوا، كما ختم على أهل القبور من أهل الكفر أنهم لا ينفعهم بعد خروجهم من دار الدنيا إلى مساكنهم من القبور إيمان ولا عمل؛ لأن الآخرة ليست بدار امتحان، وإنما هي دار مجازاة، وكذلك تأويل قوله تعالى: فإنك لا تسمع الموتى إسماعا ينتفعون به؛ لأنهم قد انقطعت عنهم الأعمال، وخرجوا من دار الأعمال إلى دار الجزاء، فلا ينفعهم دعاؤك إياهم إلى الإيمان بالله والعمل بطاعته، إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور ، وغير ذلك من وجوه المعاني.
فإذ كان ذلك محتملا من المعاني ما وصفنا، فليس لموجهه إلى أنه معني به أنه لا يسمع ميت شيئا بحال حجة، إذ كان لا خبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصححه، ولا في الفعل شاهد بحقيقته، بل تأويل مخالفيه في ذلك على ما ذكرنا أولى بالصحة لما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار الواردة عنه أنهم يسمعون كلام الأحياء، على ما وردت به عنه الآثار.