2292 - حدثنا سليمان بن الحسن، نا أبي؛ قال: ابن المبارك: قدمت مكة؛ وإذا الناس قد قحطوا من المطر وهم يستسقون في المسجد الحرام، وكنت في الناس مما يلي باب قال بني شيبة، إذا أقبل غلام أسود عليه قطعتا خيش، قد ائتزر بإحداهما وألقى الأخرى على عاتقه، فصار في موضع خفي إلى جانبي، فسمعته يقول: إلهي! أخلقت الوجوه كثرة الذنوب ومساوئ الأعمال، وقد منعتنا غيث السماء لتؤدب الخليقة بذلك؛ فأسألك يا حليم ذو أناة! يا من لا يعرف عباده [ ص: 418 ] منه إلا الجميل! اسقهم الساعة، الساعة. قال ابن المبارك: فلم يزل يقول: الساعة الساعة، حتى استوت بالغمام، وأقبل المطر من كل مكان، وجلس مكانه يسبح؛ فأخذت أبكي، إذ قام، فاتبعته حتى عرفت موضعه، فجئت إلى فقال لي: ما لك أراك كئيبا؟ قلت: سبقنا إليه غيرنا فتولاه دوننا. فقال: وما ذاك؟ فقصصت عليه القصة، فصاح وسقط وقال: ويحك يا فضيل بن عياض، ابن المبارك! خذني إليه. قلت: قد ضاق الوقت وسأبحث عن شأنه. فلما كان من غد صليت الغداة وخرجت أريد الموضع، فإذا شيخ على الباب قد بسط له وهو جالس، فلما رآني عرفني. فقال: مرحبا بك يا أبا عبد الرحمن! حاجتك؟ فقلت له: احتجت إلى غلام أسود. فقال: نعم، عندي عدة؛ فاختر أيهم شئت. وصاح: يا غلام! فخرج غلام جلد؛ فقال: هذا محمود العاقبة، أرضاه لك. فقلت: ليس هذا حاجتي، فما زال يخرج إلي واحدا واحدا حتى أخرج إلي الغلام، فلما بصرت به بدرت عيناي، فجلست، فقال: هذا هو؟ فقلت: نعم. فقال: ليس إلى بيعه سبيل. قلت: ولم؟ قال: تبركت بموضعه في هذه الدار، وذلك أنه لا يرزؤني منه شيء [أكثر من قوته] . قلت: ومن أين طعامه وشرابه؟ قال: يكسب من فتل الشريط نصف دانق أو أقل أو أكثر؛ فهو قوته، فإن باعه في يومه وإلا طوى ذلك اليوم، وأخبرني الغلمان عنه أنه لا ينام هذا الليل الطويل، ولا يختلط بأحد منهم مهتم بنفسه، وقد أحبه قلبي. فقلت له: أنصرف إلى وإلى سفيان الثوري، بغير قضاء حاجة؟ ! فقال: إن ممشاك عندي كبير، فخذه بما شئت. قال: فاشتريته، فأخذت نحو دار [ ص: 419 ] فضيل بن عياض فمشيت ساعة؛ إذ قال لي: يا مولاي! قلت: لبيك. فقال: لا تقل لي لبيك؛ فإن العبد أولى بأن يلبي المولى! قلت: حاجتك يا حبيبي. قال: أنا ضعيف البدن لا أطيق الخدمة، وفي غيري كان لك سعة، قد أخرج إليك من هو أجلد مني. فقلت: لا يراني الله وأنا أستخدمك، ولكن أشتري لك منزلا وأزوجك وأخدمك أنا بنفسي. قال: فبكى. فقلت له: ما يبكيك؟ قال: أنت لم تفعل بي هذا إلا وقد رأيت بعض متصلاتي بالله، وإلا؛ فلم اخترتني من بين أولئك الغلمان؟ فقلت له: ليس بك حاجة إلى هذا. فقال لي: سألتك بالله، إلا أخبرتني. فقلت: بإجابة دعوتك. فقال لي لما ذكرت له ذلك: إني أحسبك إن شاء الله رجلا صالحا، إن لله عز وجل خيرة من خلقه لا يكشف شأنهم إلا لمن أحب من عباده، ولا يظهر عليهم إلا من ارتضى. ثم قال لي: ترى أن تقف علي قليلا؛ فإنه قد بقيت علي ركعات من البارحة. قلت: هذا منزل فضيل قريبا. قال: لا، ها هنا أحب إلي، أمر الله عز وجل لا يؤخر. فدخل من باب الباعة إلى فضيل بن عياض، المسجد، فما زال يصلي حتى إذا أتى على ما أراد التفت إلي، فقال: يا أبا عبد الرحمن! هل من حاجة؟ قلت: ولم؟ قال: لأني أريد الانصراف. قلت: إلى أين؟ قال: إلى الآخرة. قلت: لا تفعل دعني أسر بك. فقال لي: فأما إذا اطلعت عليها أنت فسيطلع عليها غيرك وغيرك؛ فلا حاجة لي في ذلك. ثم خر لوجهه فجعل يقول: إلهي! اقبضني الساعة الساعة. فدنوت منه؛ فإذا هو قد مات، فوالله! [ ص: 420 ] ما ذكرته قط إلا طال حزني عليه، وصغرت الدنيا في عيني. إنما كانت تطيب لي الحياة حيث كانت المعاملة بيني وبينه - يعني ربه تعالى -،