453 - ذكر رضي الله عنه محمد بن أسلم الطوسي
قال أبو عبد الله خادم محمد بن أسلم: دخلت على محمد بن أسلم قبل موته بأربعة أيام بنيسابور فقال: يا أبا عبد الله ، تعال أبشرك بما صنع الله بأخيك من الخير، قد نزل بي الموت، وقد من الله علي أنه ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه، وقد علم الله ضعفي، وأني لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيئا يحاسبني عليه، ثم قال: أغلق الباب ولا تأذن لأحد علي حتى أموت، واعلم أني أخرج من الدنيا وليس أدع ميراثا غير كسائي ولبدي وإنائي الذي أتوضأ فيه، وكتبي هذه، فلا تكلف الناس مؤنة، وكانت معه صرة فيها ثلاثون درهما، فقال: هذا لابني أهداه له قريب له، ولا أعلم شيئا أحل لي منه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنت ومالك لأبيك" .
وقال: "أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه" فكفنوني منها، فإن أصبتم بعشرة دراهم ما يستر عورتي فلا [ ص: 1175 ] تشتروا بخمسة عشر ، وابسطوا على جنازتي لبدي وغطوا على جنازتي كساي، وتصدقوا بإنائي، أعطوه مسكينا يتوضأ منه، ثم مات اليوم الرابع، فعجبت أن قال لي: ذلك بيني وبينه! فلما أخرجت جنازته جعلن النساء يقلن من فوق السطوح: يا أيها الناس هذا العالم الذي خرج من الدنيا وهذا ميراثه الذي على جنازته ليس مثل علمائنا هؤلاء الذين هم عبيد بطونهم يجلس أحدهم للعلم سنتين وثلاثة فيشتري الضياع ويستفيد المال.
قال: وقال لي محمد بن أسلم: يا أبا عبد الله إن معي في قميصي من يشهد علي فكيف أكتسب الذنوب؟ ! إنما يعمل الذنب جاهل ينظر فلا يرى أحدا، يقول: ليس يراني أحد، أذهب فأذنب أما أنا، كيف يمكنني ذلك؟ وقد علمت أن داخل قميصي من يشهد علي، ثم قال: يا أبا عبد الله مالي ولهذا الخلق؟ كنت في صلب أبي وحدي، ثم صرت في بطن أمي وحدي، ثم دخلت إلى الدنيا وحدي، ثم تقبض روحي وحدي، وأدخل في قبري وحدي، ويأتيني منكر ونكير فيسألاني وحدي، فإن صرت إلى خير كنت وحدي ، وإن صرت إلى شر كنت وحدي، ثم أقف بين يدي الله وحدي، فإن بعثت إلى الجنة بعثت وحدي ، وإن بعثت إلى النار بعثت وحدي ، فما لي وللناس؟ ثم تفكر ساعة ووقعت عليه الرعدة حتى خشيت أن يسقط، ثم رجعت إليه نفسه [ ص: 1176 ] .
ثم قال: يا أبا عبد الله إن هؤلاء قد كتبوا رأي وكتبت أنا الأثر، فأنا عندهم على غير الطريق، وهم عندي على غير الطريق، ثم قال: يا أبي حنيفة أبا عبد الله أصل الإسلام في هذه الفرائض، وهذه الفرائض في حرفين: ما قال الله ورسوله: افعل، ففعله فريضة ينبغي أن يفعل، وما قال الله ورسوله: لا تفعل، فتركه فريضة ينبغي أن ينتهى عنه.
وقال أبو عبد الله: أكلت عند محمد بن أسلم ذات يوم ثريدا باردة، فقلت له: يا أبا الحسن ، مالك تأتيني بثريد بارد هكذا نأكله؟ قال: إنما طلبت العلم لأعمل به، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس في الحار بركة" قال أبو عبد الله: وكنت أخبز له فما نخلت له دقيقا إلا أن أعصيه.
وكان يقول: اشتر لي شعيرا أسود قد تركه الناس، ولا تشتر إلا ما يكفيني يوما بيوم، قال: وأردت أن أخرج إلى بعض القرى فلا أرجع نحوا من أربعة أشهر فاشتريت له عدل شعير أبيض جيدا فنقيته ثم أتيته به فقلت: إني أريد أن أخرج إلى بعض القرى، فاشتريت لك هذا الطعام لتأكل منه حتى أرجع، فقال له: نقيته وجودته لي؟ قلت: نعم.
فتغير لونه وقال: إن كنت تنوقت فيه ونقيته فأطعمه نفسك، فلعل لك عند الله أعمالا لا تحتمل أن تطعم نفسك النقي، وأما أنا فبالله [ ص: 1177 ] الذي لا إله إلا هو ما رأيت نفسا تصلي إلى القبلة شرا عندي من نفسي، فبما أحتج به عند الله، أن أطعمها النقي، خذ هذا واشتري لي في كل يوم بقطعة شعيرا أسود رديئا فإنه إنما يصير إلى الكنيف، ثم قال: لا أعرف فيكم من يبصر بقلبه، لو أن إنسانا كان يبيع بيعا فجاءه رجل بدراهم، فقال: أحب أن تبيعني طعامك فإني أريده للكنيف ، تضحكون منه، وتقولون: هذا مجنون، فكيف لا تضحكون من أنفسكم، احفروا حفيرة واجعلوا فيها ماءا وطعاما وانظروا هل تنتن في شهر وأنتم تجعلونه في بطونكم فينتن في يوم وليلة، فالكنيف هو البطن، ثم قال: اخرج فاشتر لي رحا، واشتر لي شعيرا رديئا لا يحتاج إليه الناس حتى أعجنه بيدي فآكله لعلي أبلغ ما كان فيه علي وفاطمة رضي الله عنهما، ثم أعطاني عشرة دراهم فاشتريت بها دقيقا فنخلته وخبزته فقال: يا أبا عبد الله إن نخل الدقيق بدعة ولا أحب أن يكون ذلك الخبز في بيتي بعد أن يكون فيه بدعة [ ص: 1178 ] .