فذهبت طائفة من المثبتين للقدر إلى ذلك ، وقالوا : خلقه وأمره متعلق بمحض المشيئة لا يتوقف على مصلحة ، وهذا قول  الجهم   [1] 
وذهب جمهور العلماء إلى أنه إنما أمر العباد بما فيه صلاحهم ، ونهاهم عما فيه فسادهم  ، وأن فعل المأمور به مصلحة [ عامة ] [2] لمن فعله ، وأن إرساله الرسل مصلحة عامة ، وإن كان فيه ضرر على بعض الناس لمعصيته ، فإن الله كتب في كتاب [3] فهو عنده [ موضوع ] [4] فوق العرش : " إن رحمتي تغلب غضبي  " ، وفي رواية : " إن رحمتي سبقت غضبي  " أخرجاه في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [5]  . 
 [ ص: 463 ] فهم يقولون : فعل المأمور به وترك المنهي عنه مصلحة لكل فاعل وتارك ، وأما نفس الأمر وإرسال الرسل فمصلحة عامة [6] للعباد وإن تضمن شرا لبعضهم ، وهكذا سائر ما يقدره الله تغلب فيه المصلحة والرحمة والمنفعة ، وإن كان في ضمن ذلك ضرر لبعض الناس فلله في ذلك [7] حكمة أخرى . 
وهذا قول أكثر الفقهاء وأهل الحديث والتصوف ، [ وطوائف من ] أهل الكلام [8]  - غير المعتزلة   - مثل الكرامية  ، وغيرهم . وهؤلاء يقولون : وإن كان في بعض ما يخلقه ما فيه ضرر لبعض الناس ، أو هو سبب ضرر - كالذنوب - فلا بد في كل ذلك من حكمة ومصلحة لأجلها خلقها الله ، وقد غلبت رحمته غضبه ، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع . 
وهو لم يذكر إلا مجرد حكاية الأقوال ، فبينا ما في ذلك النقل من الصواب والخطأ . فإن هذا الذي نقله ليس من كلام شيوخه الرافضة  ، بل هو من كلام المعتزلة  كأصحاب أبي علي  ، وأبي هاشم  ، وأبي الحسين البصري  ، وغيرهم . 
وهؤلاء ذكروا ذلك ردا على الأشعرية  [9] خصوصا ، فإن الأشعرية  وبعض المثبتين للقدر وافقوا  الجهم بن صفوان  في أصل قوله في الجبر ، وإن نازعوه في بعض ذلك نزاعا لفظيا أتوا بما لا يعقل ، لكن لا يوافقونه  [ ص: 464 ] على قوله \ في نفي الصفات بل يثبتون الصفات ؛ فلهذا [10] بالغوا في مخالفة [11] المعتزلة  في مسائل القدر حتى نسبوا إلى الجبر ، وأنكروا الطبائع والقوى التي في الحيوان أن يكون لها تأثير أو سبب في الحوادث [12] أو يقال : فعل بها ، وأنكروا أن يكون للمخلوقات حكمة وعلة [13]  . 
ولهذا قيل : إنهم أنكروا أن يكون الله يفعل لجلب منفعة لعباده أو دفع مضرة . وهم لا يقولون : إنه [ لا ] يفعل مصلحة ما [14] فإن هذا مكابرة ، بل يقولون : إن ذلك [15] ليس بواجب عليه وليس بلازم وقوعه منه ، ويقولون : إنه لا يفعل شيئا لأجل شيء ولا بشيء ، وإنما اقترن هذا بهذا لإرادته لكليهما [16] ، فهو يفعل أحدهما مع صاحبه لا به ولا لأجله [17] ، والاقتران بينهما [18] مما جرت به عادته لا لكون [19] أحدهما سببا للآخر ولا حكمة له ، ويقولون : إنه ليس في القرآن في خلقه وأمره لام تعليل . 
 [ ص: 465 ] وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب  مالك   والشافعي   وأحمد  وغيرهم ، مع أن أكثر الفقهاء الذين يوافقونهم على هذا في كتب الكلام ، يقولون بضد ذلك في مسائل الفقه والتفسير والحديث وأدلة الفقه ، وكلامهم في أصول الفقه تارة يوافق هؤلاء وتارة يوافق هؤلاء . 
لكن جمهور أهل السنة من هؤلاء الطوائف وغيرهم يثبتون القدر ، [ ويثبتون ] الحكمة [ أيضا ] والرحمة [20] وأن لفعله غاية محبوبة وعاقبة محمودة ، وهذه مسألة عظيمة جدا قد بسطت في غير هذا الموضع . 
ففي الجملة لم تثبت المعتزلة  والشيعة  نوعا من الحكمة والرحمة ، إلا وقد أثبت أئمة أهل [21] السنة ما هو أكمل من ذلك وأجل منه ، مع إثباتهم قدرة الله التامة ومشيئته النافذة وخلقه العام [22]  . 
هؤلاء لا يثبتون هذا ، ومتكلمو الشيعة  المتقدمون كالهشامين وغيرهما [23] كانوا يثبتون القدر ، كما يثبته غيرهم ، وكذلك الزيدية  منهم من يثبته ومنهم من ينفيه . فالشيعة  في القدر على قولين ، كما أن المثبتين لخلافة الخلفاء الثلاثة [ في القدر ] [24] على قولين . 
فلا يوجد لأهل السنة قول ضعيف إلا وفي الشيعة  من يقوله ويقول  [ ص: 466 ] ما هو أضعف منه ، ولا يوجد للشيعة  [25] قول قوي إلا وفي أهل السنة من يقوله ويقول ما هو أقوى منه ، ولا يتصور أن [26] يوجد للشيعة  قول قوي لم يقله [ أحد من ] [27] أهل السنة . فثبت أن أهل السنة أولى بكل خير منهم ، كما أن المسلمين أولى بكل خير من اليهود والنصارى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					