[ ص: 119 ] فصل [1]
قال الرافضي [2] : " وجعل الأمر شورى بعده ، وخالف فيه من تقدمه ؛ فإنه لم يفوض الأمر فيه إلى اختيار الناس ، ولا نص على إمام بعده ، بل تأسف على سالم مولى أبي [3] حذيفة ، وقال : لو كان حيا لم يختلجني فيه شك ، وأمير المؤمنين علي حاضر . [4]
وجمع فيمن يختار بين الفاضل والمفضول [5] ، ومن حق الفاضل التقدم على المفضول . ثم طعن [6] في كل واحد ممن اختاره للشورى ، وأظهر أنه يكره أن يتقلد [7] أمر المسلمين ميتا كما تقلده [8] حيا . ثم تقلده [ ميتا ] [9] بأن جعل الإمامة في ستة ، ثم ناقص [10] فجعلها في أربعة ، ثم في ثلاثة ، ثم في واحد ، فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار ، بعد أن وصفه [ ص: 120 ] بالضعف والقصور ، ثم قال : إن اجتمع أمير المؤمنين [11] وعثمان ، فالقول ما قالاه ، وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذي صار فيهم عبد الرحمن بن عوف ، لعلمه أن عليا [12] وعثمان لا يجتمعان على أمر واحد [13] ، وأن عبد الرحمن لا يعدل الأمر [14] عن أخيه وهو عثمان وابن عمه [15] ، ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام [16] ، مع أنهم عندهم من العشرة المبشرة بالجنة [17] ، وأمر بقتل من خالف الأربعة منهم [18] ، وأمر بقتل من خالف الثلاثة [ الذين بينهم ] عبد الرحمن [19] ، وكل ذلك مخالف للدين .
وقال لعلي : وإن [20] وليتها - وليسوا فاعلين [21] - لتركبنهم على المحجة البيضاء ، وفيه إشارة إلى أنهم لا يولونه إياها ، قال لعثمان : إن وليتها لتركبن آل أبي معيط [22] على رقاب الناس ، وإن [23] فعلت لتقتلن . وفيه إشارة إلى الأمر بقتله " .
[ ص: 121 ] والجواب : أن هذا الكلام كله لا يخرج عن قسمين : إما كذب في النقل ، وإما قدح في الحق ، فإن منه ما هو كذب معلوم الكذب أو غير معلوم الصدق ، وما علم أنه صدق فليس فيه ما يوجب الطعن على عمر - رضي الله عنه ، بل ذلك معدود من فضائله ومحاسنه التي ختم الله بها عمله .
ولكن هؤلاء القوم لفرط جهلهم وهواهم يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول ، فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعلم أنها وقعت ، فيقولون : ما وقعت ، وإلى أمور ما كانت ويعلم أنها ما كانت ، فيقولون : كانت ، ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح ، فيقولون : هي فساد وإلى الأمور التي هي فساد ، فيقولون : هي خير وصلاح ؛ فليس لهم لا [24] عقل ولا نقل ، بل لهم نصيب من قوله : ( وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ) [ سورة الملك : 10 ] .
وأما قول الرافضي : " وجعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدمه " .
فالجواب : أن الخلاف نوعان : خلاف تضاد ، وخلاف تنوع ، فالأول : مثل أن يوجب هذا شيئا ويحرمه الآخر ، والنوع الثاني : مثل القراءات التي يجوز كل منها ، وإن كان هذا يختار قراءة ، وهذا يختار قراءة ، كما ثبت في الصحاح ، بل استفاض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : [ ص: 122 ] " إن القرآن نزل [25] على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف " [26] .
وثبت أن عمر وهشام بن حكيم بن حزام اختلفا في سورة الفرقان ، فقرأها هذا على وجه ، وهذا على وجه آخر ، فقال لكليهما : " هكذا أنزلت " [27] .
ومن هذا الباب أنواع التشهدات كتشهد ابن مسعود الذي أخرجاه في الصحيحين ، وتشهد أبي موسى الذي رواه مسلم ، وألفاظهما متقاربة ، وتشهد ابن عباس الذي رواه مسلم ، وتشهد عمر الذي علمه الناس على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم ، وتشهد ابن عمر وعائشة وجابر اللواتي [28] [ ص: 123 ] رواها أهل السنن عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . [29]
فكل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فهو سائغ وجائز ، وإن اختار كل من الناس بعض التشهدات : إما لكونه هو الذي علمه ولاعتياده إياه ، وإما لاعتقاده رجحانه من بعض الوجوه .
وكذلك الترجيع في الآذان وترك [30] الترجيع ؛ فإن الأول قد ثبت في الصحيح في أذان أبي محذورة ، وروي في أوله التكبير مرتين ، كما رواه مسلم ، وروي أربعا كما رواه أبو داود ، وترك الترجيع هو الذي رواه أهل [ ص: 124 ] السنن في أذان بلال [31] .
وكذلك وتر الإقامة هو الذي ثبت في أذان بلال ، وشفع الإقامة ثبت في الصحيح في أذان أبي محذورة ، فأحمد وغيره من فقهاء الحديث أخذوا بأذان بلال وإقامته ، والشافعي أخذ بأذان أبي محذورة وإقامة بلال ، وأبو حنيفة أخذ بأذان بلال وإقامة أبي محذورة [32] .
وكل هذه الأمور جائزة بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وإن كان من الفقهاء من يكره بعض ذلك ، لاعتقاده [33] أنه لم يثبت كونه سن في الأذان ، فذلك لا يقدح في علم من علم أنه سنة .
وكذلك أنواع صلاة الخوف ، فإنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها أنواع متعددة ، كصلاة ذات الرقاع وصلاة عسفان وصلاة نجد ، فإنه صلى بهم بعسفان جماعة صلاة [34] واحدة ، لكن جعلهم صفين ، فالصف الواحد ركعوا معه جميعا ، وسجد معه الصف الأول ، وتخلف الصف [35] [ ص: 125 ] الآخر عن المتابعة ليحرسوا ، ثم أتموا لأنفسهم ، وفي الركعة الثانية بالعكس ، فكان في ذلك من خلاف الصلاة المعتادة ، تخلف أحد الصفين عن السجود معه لأجل الحرس ، وهذه مشروعة إذا كان العدو وجاه القبلة .
وصار هذا أصلا للفقهاء في تخلف المأموم [36] لعذر فيما دون الركعة ، كالزحمة والنوم والخوف وغير ذلك : أنه لا يبطل الصلاة ، وأنه يفعل ما تخلف عنه .
وأكثر الصلوات كان يجعلهم طائفتين ، وهذا يتعين إذا كان العدو في غير جهة الكعبة [37] فتارة يصلي بطائفة ركعة ، ثم يفارقونه [38] ويتمون لأنفسهم ، ثم يصلي بالطائفة الثانية الركعة الثانية ، ويتمون لأنفسهم قبل سلامه فيسلم بهم ، فيكون الأولون أحرموا معه ، والآخرون سلموا معه ، كما صلى بهم في ذات الرقاع ، وهذه أشهر الأنواع ، وأكثر الفقهاء يختارونها ، لكن منهم من يختار أن تسلم الثانية بعده كالمسبوق ، كما يروى عن مالك ، والأكثرون يختارون ما ثبت به النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم ، ولأن المسبوق قد صلى غيره مع الإمام [39] الصلاة كلها فيسلم بهم ، بخلاف هذا ، فإن الطائفة الأولى لم تتم معه الصلاة ، فلا يسلم إلا بهم ، ليكون تسليمه بالمأمومين .
[ ص: 126 ] فإن في السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم " فهذا مروي عن علي وغيره [40] .
ومنها صلاة نجد : صلى بطائفة ركعة ، ثم ذهبت إلى وجاه العدو ، وجاءت [41] الطائفة الثانية فصلى بهم الثانية ، ثم ذهبوا إلى وجاه العدو ، ورجع الأولون فأتموا بركعة [42] ، ثم رجع هؤلاء فأتموا بركعة [43] .
وهذه يختارها أبو حنيفة لأنها على وفق القياس عنده ، إذ ليس فيها إلا العمل الكثير واستدبار القبلة [44] لعذر ، وهو يجوز ذلك لمن سبقه الحدث ، ومنها صلوات [45] أخرى .
والصحيح الذي لا يجوز أن يقال بغيره : أن كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فهو جائز ، وإن كان المختار يختار بعض ذلك فهذا من اختلاف التنوع [46] .
ومن ذلك أنواع الاستفتاحات في الصلاة ، كاستفتاح أبي هريرة الذي [ ص: 127 ] رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم ، وهو في الصحيحين ، واستفتاح علي بن أبي طالب الذي رواه مسلم ، واستفتاح عمر الذي كان يجهر به في محراب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمه الناس ، متفق عليه ، وهو في السنن مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك من الاستفتاحات [47] .
ومن ذلك صفات الاستعاذة ، وأنواع الأدعية في آخر الصلاة ، وأنواع الأذكار التي تقال في الركوع والسجود مع التسبيح المأمور به .
ومن ذلك صلاة التطوع : يخير فيها بين القيام والقعود ، ويخير بين الجهر بالليل والمخافتة [48] إلى أمثال ذلك .
ومن ذلك تخيير الحاج بين التعجيل [49] في يومين من أيام منى وبين التأخر إلى [50] اليوم الثالث .
وهذا الاختلاف قسمان : أحدهما يكون [51] الإنسان مخيرا فيه بين النوعين بدون اجتهاد في أصلحهما ، والثاني يكون تخييره بحسب ما يراه من المصلحة .
وتخيير المتصرف لغيره هو من هذا الباب ، كولي اليتيم ، وناظر الوقف ، والوكيل ، والمضارب ، والشريك ، وأمثال ذلك ممن تصرف [52] [ ص: 128 ] لغيره ؛ فإنه إذا كان مخيرا بين هذا النقد وهذا النقد ، أو بين النقد والنسيئة ، أو بين ابتياع هذا الصنف وهذا الصنف ، أو البيع في هذا السوق وهذا السوق ، فهو تخيير مصلحة واجتهاد ، فليس له أن يعدل عما يراه أصلح لمن ائتمنه ، إذا لم يكن عليه في ذلك مشقة تسوغ له تركه .
ومن هذا الباب تصرف ولي الأمر للمسلمين ، كالأسير الذي يخير فيه بين القتل والاسترقاق ، وكذلك بين المن والفداء عند أكثر العلماء .
ولهذا استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فيهم يوم بدر ، فأشار عليه أبو بكر - رضي الله عنه - بأخذ الفداء ، وشبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بإبراهيم وعيسى ، وأشار عليه عمر - رضي الله عنه - بالقتل ، وشبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بنوح وموسى ، ولم يعب واحدا منهما بما أشار عليه به ، بل مدحه وشبهه بالأنبياء [53] . ولو كان مأمورا بأحد الأمرين حتما لما استشارهم فيما يفعل .
وكذلك اجتهاد ولي الأمر فيمن يولي ، فعليه أن يختار أصلح من يراه ، ثم إن الاجتهاد يختلف ويكون جميعه صوابا ، كما أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان رأيه أن يولي خالد بن الوليد في حروبه ، وكان عمر يشير عليه بأن يعزله ، فلا يعزله ، ويقول : إنه سيف سله الله على المشركين ، ثم إن عمر لما تولى عزله وولى أبا عبيدة بن الجراح ، وما فعله كل منهما كان أصلح في وقته ؛ فإن أبا بكر كان فيه لين ، وعمر كان فيه [ ص: 129 ] شدة ، وكانا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشيرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وروي عنه أنه قال : " إذا اتفقتما على شيء لم أخالفكما " [54] . وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في بعض مغازيه : " إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا " . [55] .
وفي رواية في الصحيح " كيف ترون القوم صنعوا حين فقدوا نبيهم وأرهقتهم صلاتهم ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : " أليس فيهم أبو بكر وعمر ؟ إن يطيعوهما [ فقد رشدوا ورشدت أمتهم ، وإن يعصوهما ] [56] فقد غووا وغوت أمتهم " قالها ثلاثا [57] .
[ ص: 130 ] وقد روى مسلم في صحيحه [58] من حديث [ ابن عباس عن ] عمر [59] قال : " لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه وهم [60] ثلاثمائة وتسعة عشر [61] رجلا ، فاستقبل رسول الله [62] - صلى الله عليه وسلم - القبلة ، ثم مد يديه فجعل [63] يهتف بربه : " اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آتني [64] ما وعدتني ، اللهم إن تهلك [65] هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل [66] القبلة ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه [67] ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه [68] ، ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله كفاك [69] مناشدتك ربك ، [ فإنه ] [70] سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله تعالى : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) [ سورة الأنفال : 9 ] فأمده الله بالملائكة . قال أبو زميل : فحدثني ابن عباس قال : بينما رجل من [ ص: 131 ] المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه ، وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم [71] ، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا ، فنظر إليه فإذا قد [72] خطم [73] أنفه وشق وجهه كضربة السوط [74] . فاخضر ذلك أجمع ، فجاء الأنصاري فحدث بذلك [75] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " صدقت ، ذلك [76] من مدد السماء الثالثة " فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين . فقال [77] أبو زميل : قال ابن عباس : فلما أسروا الأسارى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر : " ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ " فقال أبو بكر : [ يا نبي الله ] [78] هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية ، فتكون [79] لنا قوة على المشركين [80] ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما ترى يا ابن الخطاب ؟ " قلت : لا والله يا رسول الله ما أرى [ ص: 132 ] الذي رأى أبو بكر ، ولكني [81] أرى أن تمكننا [82] فنضرب [83] أعناقهم ، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكني [84] من فلان - نسيب [85] . لعمر - فأضرب عنقه ؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها [86] ، فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال [87] أبو بكر ، ولم يهو ما قلت [88] ، فلما كان من الغد جئت ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر [ قاعدين ] [89] يبكيان . قلت [90] : يا رسول الله ما يبكيك أنت وصاحبك [91] ؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبكي للذي عرض علي أصحابك [92] من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ( [93] شجرة قريبة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) فأنزل الله - تعالى [94] - [ ص: 133 ] ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) [95] الآية [ سورة الأنفال : 67 ] " قال [96] : " فأحل الله لهم الغنيمة " [97] .
ورواه عبد الله بن مسعود وقال فيه : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال : ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) [ سورة إبراهيم : 36 ] أو كمثل عيسى قال : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) [ سورة المائدة : 118 ] وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) [ سورة نوح : 26 ] " وقال : " يا عمر كمثل موسى [98] قال : ( واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) [ سورة يونس : 88 ] [99] " .
[ ص: 134 ] وقد روي هذا المعنى من حديث أم سلمة وابن عباس وغيرهما .
وقد روى أحمد في المسند من حديث أبي معاوية ، ورواه ابن بطة ، ورويناه في جزء ابن عرفة عن أبي معاوية ، وهذا لفظه قال [100] : " لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما تقولون في هؤلاء الأسارى [101] ؟ " فقال [102] أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك ، استبقهم واستأن بهم ، لعل الله يتوب [103] عليهم . وقال عمر : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك [104] ، قربهم واضرب أعناقهم " فذكر الحديث . قال : " فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرد عليهم شيئا . قال : فخرج رسول [ ص: 135 ] الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إن مثلك [105] يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال : ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) [ سورة إبراهيم : 36 ] وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) [ سورة المائدة : 118 ] وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) [ سورة نوح : 26 ] وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال : ( واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) [ سورة يونس : 88 ] .
وروى ابن بطة بالإسناد الثابت من حديث الزنجي ابن خالد عن إسماعيل بن أمية قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر : " لولا أنكما تختلفان علي ما خالفتكما " [106] .
وكان السلف متفقين على تقديمهما حتى شيعة علي - رضي الله عنه - .
وروى ابن بطة عن شيخه المعروف بأبي العباس بن مسروق ، حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا جرير ، عن سفيان ، عن عبد الله بن زياد ، عن حدير [107] ، قال : " قدم أبو إسحاق السبيعي [108] الكوفة ، قال لنا شمر بن [ ص: 136 ] عطية [109] : قوموا إليه [110] ، فجلسنا إليه ، فتحدثوا ، فقال أبو إسحاق : خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما ، وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون ، ولا والله ما أدري ما يقولون " .
وقال : حدثنا النيسابوري ، حدثنا أبو أسامة الحلبي ، حدثنا أبي ، حدثنا ضمرة ، عن سعيد بن حسن [111] ، قال : سمعت ليث بن أبي سليم [112] يقول : أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحدا .
وقال أحمد بن حنبل : " حدثنا ابن عيينة ، عن خالد بن سلمة [113] ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة " . ( * ومسروق من أجل تابعي الكوفة ، وكذلك قال طاوس : " حب [ ص: 137 ] أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة * ) " . [114] وقد روي ذلك عن ابن مسعود .
وكيف لا تقدم الشيعة الأولى أبا بكر وعمر ، وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال : " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر " . [115] وقد روي هذا عنه من طرق كثيرة ، قيل : إنها تبلغ ثمانين طريقا .
وقد رواه [116] البخاري عنه [ في صحيحه ] [117] من حديث الهمدانيين الذين هم أخص الناس بعلي حتى كان يقول :
ولو [118] كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلي [119] بسلام
وقد رواه البخاري من حديث سفيان الثوري ، [ وهو همداني ] [120] عن منذر [ وهو همداني ] [121] عن محمد ابن الحنفية قال : قلت لأبي : يا أبت ، من خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : يا بني أوما تعرف ؟ فقلت : لا . قال : أبو بكر . فقلت : ثم من ؟ قال : عمر . وهذا يقوله لابنه بينه وبينه ، ليس هو مما يجوز أن يقوله تقية ويرويه عن أبيه خاصة ، وقاله على المنبر .
[ ص: 138 ] وعنه أنه كان يقول : " لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري " [122] .
وفي السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " [123] .
ولهذا كان أحد قولي العلماء - وهو إحدى الروايتين عن أحمد - أن قولهما إذا اتفقا حجة لا يجوز العدول عنها . وهذا أظهر القولين . كما أن الأظهر أن اتفاق الخلفاء الأربعة أيضا حجة لا يجوز خلافها ، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنتهم .
وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - مبعوثا بأعدل الأمور وأكملها ، فهو الضحوك القتال ، وهو نبي الرحمة ، ونبي الملحمة . بل أمته موصوفون بذلك في مثل قوله تعالى : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) [ سورة الفتح : 29 ] [ وقوله تعالى ] [124] : ( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [ سورة المائدة : 54 ] . فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين شدة هذا ولين هذا ، فيأمر بما هو العدل [125] ، وهما يطيعانه ، فتكون أفعالهما على كمال الاستقامة ، فلما قبض الله نبيه ، وصار كل منهما خليفة على المسلمين خلافة نبوة ، كان من كمال أبي بكر - رضي الله عنه - أن [126] يولي [ ص: 139 ] الشديد ويستعين به ليعتدل أمره ، ويخلط الشدة باللين ، فإن مجرد اللين يفسد ، ومجرد الشدة تفسد ، ويكون قد قام مقام النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان [127] يستعين باستشارة عمر وباستنابة خالد ونحو ذلك .
وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ولهذا اشتد في قتال أهل الردة شدة برز بها على عمر وغيره . حتى روي أن عمر قال [ له ] [128] : يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تألف الناس . فقال : علام أتألفهم : أعلى حديث مفترى ؟ أم على شعر مفتعل ؟ .
وقال أنس : خطبنا أبو بكر عقيب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنا لكالثعالب ، فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود .
وأما عمر - رضي الله عنه - فكان شديدا في نفسه ، فكان من كماله استعانته باللين ليعتدل أمره ، فكان يستعين بأبي عبيدة بن الجراح ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي عبيد الثقفي ، والنعمان بن مقرن ، وسعيد بن عامر ، وأمثال هؤلاء من أهل الصلاح والزهد ، الذين هم أعظم زهدا وعبادة من مثل خالد بن الوليد [ وأمثاله ] [129] .


