والمقصود أن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يقتتلوا قط لاختلافهم في قاعدة من قواعد الإسلام  أصلا ، ولم يختلفوا في شيء من قواعد الإسلام : لا في الصفات ولا [ في ] القدر [1] ، ولا مسائل الأسماء والأحكام [2] ، ولا مسائل الإمامة . لم يختلفوا في ذلك بالاختصام بالأقوال ، فضلا عن الاقتتال بالسيف ، بل كانوا مثبتين لصفات الله التي أخبر بها عن نفسه ، نافين عنها تمثيلها بصفات المخلوقين ، مثبتين للقدر كما أخبر الله به ورسوله ، مثبتين للأمر والنهي والوعد والوعيد ، مثبتين لحكمة الله في خلقه وأمره مثبتين لقدرة العبد واستطاعته ولفعله مع إثباتهم للقدر . 
[ ثم ] [3] لم يكن في زمنهم من يحتج للمعاصي بالقدر ، ويجعل القدر [4] حجة لمن عصى أو كفر ، ولا من يكذب بعلم الله ومشيئته الشاملة  [ ص: 337 ] وقدرته العامة وخلقه لكل شيء ، وينكر فضل الله وإحسانه ومنه على أهل الإيمان والطاعة ، وأنه هو الذي أنعم عليهم بالإيمان والطاعة ، وخصهم بهذه النعمة ، دون أهل الكفر والمعصية ، ولا من ينكر افتقار العبد إلى الله في كل طرفة عين ، وأنه لا حول ولا قوة إلا به في كل دق وجل ، ولا من يقول : إن الله يجوز أن يأمر بالكفر والشرك ، وينهى عن عبادته وحده ، ويجوز أن يدخل إبليس وفرعون  الجنة ويدخل الأنبياء النار ، وأمثال ذلك . 
فلم يكن فيهم من يقول بقول القدرية  النافية ، ولا القدرية  الجبرية  الجهمية   . ولا كان فيهم من يقول بتخليد أحد من أهل القبلة في النار ، ولا من يكذب بشفاعة [5] النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهل الكبائر ، ولا من يقول : إيمان ( * الفساق كإيمان الأنبياء . 
بل قد [6] ثبت عنهم بالنقول الصحيحة القول بخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان * ) [7] من النار بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن إيمان الناس يتفاضل  ، وأن الإيمان يزيد وينقص   . 
ومن نقل عن  ابن عباس  أنه كان يقول بتخليد قاتل النفس فقد كذب عليه ، كما ذكر ذلك  ابن حزم  وغيره [8]  . وأما المنقول عن ابن  [ ص: 338 ] عباس  ، ففي توبة القاتل ، لا القول بتخليده وتوبته فيها ، روايتان عن  أحمد  كما قد بسط في موضعه . فأين هذا من هذا ؟ . 
ولا كان في الصحابة من يقول : إن  أبا بكر   وعمر   وعثمان  لم يكونوا أئمة ولا كانت خلافتهم صحيحة ، ولا من يقول : إن خلافتهم ثابتة بالنص ، ولا من يقول : إن بعد مقتل  عثمان  كان غير  علي  أفضل منه ، ولا أحق منه بالإمامة . 
فهذه القواعد الدينية التي اختلف فيها من بعد الصحابة ، لم يختلفوا فيها بالقول ولا بالخصومات ، فضلا عن السيف ، ولا قاتل أحد منهم على قاعدة في الإمامة . فقبل خلافة علي لم يكن بينهم قتال في الإمامة ولا في ولايته [9] لم يقاتله أحد على أنه يكون تابعا لذاك . 
والذين قاتلوا  عليا  لم يقاتلوا لاختصاص علي دون الأئمة قبله بوصف ، بل الذين قاتلوا معه كانوا يقرون بإمامة من قبله ، وشائعا بينهم أن  أبا بكر  أفضل منه ، وقد تواتر [10] عنه نفسه أنه كان يقول ذلك على المنبر . ولم يظهر عن الشيعة    [11] الأول تقديم  علي  على  أبي بكر   وعمر  ، فضلا عن الطعن في إمامتهما . 
 [ ص: 339 ] وبكل حال ، فمن المعلوم للخاصة والعامة ، أهل السنة وأهل البدعة ، أن القتال في زمن  علي  لم يكن  لمعاوية  ومن معه ، إلا لكونهم لم يبايعوا  عليا  ، لم يكن لكونهم بايعوا  أبا بكر   وعمر   وعثمان   . 
وأما الحرب التي كانت بين  طلحة   والزبير  وبين  علي  فكان كل منهما يقاتل عن نفسه ظانا أنه يدفع صول غيره عليه ، لم يكن  لعلي  غرض في قتالهم ، ولا لهم غرض في قتاله ، بل كانوا قبل قدوم علي يطلبون قتلة  عثمان  ، وكان للقتلة من قبائلهم من يدفع عنهم ، فلم يتمكنوا منهم ، فلما قدم علي وعرفوه مقصودهم [12] ، عرفهم أن هذا أيضا رأيه ، لكن لا يتمكن حتى ينتظم الأمر ، فلما علم بعض القتلة ذلك ، حمل [ على ] أحد العسكرين [13] ، فظن الآخرون أنهم بدأوا بالقتال ، فوقع القتال بقصد أهل الفتنة لا بقصد السابقين الأولين ، ثم وقع قتال على الملك . 
فلم يكن ما وقع قدحا في خلافة الثلاثة ، مثل الفتنة التي وقعت بين  ابن الزبير  وبين يزيد  ، ثم بين  مروان  وابنه . وهؤلاء كلهم كانوا متفقين على موالاة  عثمان  ، وقتال من قاتله فضلا عن  أبي بكر   وعمر   . 
وكذلك الفتنة التي وقعت بين يزيد  وأهل المدينة    - فتنة الحرة - فإنما كانت من بعض أهل المدينة   ، أصحاب السلطان من بني أمية  وأصحاب يزيد  ، لم تكن لأجل  أبي بكر   وعمر  أصلا ، بل كان كل من بالمدينة  والشام  من الطائفتين متفقين على ولاية  أبي بكر   وعمر   . 
 [ ص: 340 ]  والحسين   - رضي الله عنه - لما خرج إلى الكوفة  إنما كان يطلب الولاية مكان يزيد  ، لم يكن يقاتل على خلافة  أبي بكر   وعمر   . وكذلك الذين قتلوه . ولم يكن هو حين قتل طالبا للولاية ، ولا كان معه جيش يقاتل به ، وإنما كان قد رجع منصرفا وطلب أن يرد إلى يزيد  ابن عمه ، أو أن يرد إلى منزله بالمدينة  ، أو يسير إلى الثغر ، فمنعه أولئك الظلمة من الثلاثة حتى يستأسر لهم ، فلم يقتل - رضي الله عنه - وهو يقاتل على ولاية ، بل قتل وهو يطلب الدفع عن نفسه لئلا يؤسر ويظلم . 
 والحسن  أخوه قد كانت معه الجيوش العظيمة ومع هذا فقد نزل عن الأمر وسلم إلى  معاوية  وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أثنى عليه بذلك وقال : " إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به [14] بين فئتين عظيمتين من المسلمين  " [15]  . 
ثم لما قتل  الحسين  قام من يطلب بدمه مع  المختار بن أبي عبيد الثقفي  وقتلوا  عبيد الله بن زياد   . ثم لما قدم  مصعب بن الزبير  قتل المختار فإنه كذب وادعى [16] أنه يوحى إليه . 
وفي صحيح  مسلم  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " سيكون من ثقيف كذاب ومبير [17]  " ، وكان الكذاب هو الذي سمي [18]  المختار  ،  [ ص: 341 ] ولم يكن بالمختار . والمبير هو  الحجاج بن يوسف الثقفي  ، والفتنة التي وقعت في زمنه فتنة  ابن الأشعث  ، خرج عليه ، ومعه القراء ، كانت بظلمه وعسفه . 
فلم يكن شيء من هذه لأجل خلافة  أبي بكر   وعمر  ، بل كل هؤلاء كانوا متفقين على خلافة  أبي بكر   وعمر  ، وإنما كانت على ولاية سلطان الوقت ، فإذا جاء قوم ينازعونه ، قام معه ناس ، وقام عليه أناس . 
وهكذا كانت الفتن التي وقعت بعد هذا في زمن بني أمية   ; فإن  زيد بن علي بن الحسين  لما خرج في خلافة  هشام  وطلب الأمر لنفسه ، كان ممن يتولى  أبا بكر   وعمر  ، فلم يكن قتاله على قاعدة من قواعد الإمامة التي يقولها الرافضة   . 
ولما خرج أبو مسلم  وشيعة بني هشام  على بني أمية  إنما قاتلوا من كان متوليا في ذلك الوقت ، وهو مروان بن محمد  وأنصاره . 
وما زال بنو العباس  مثبتين لخلافة الأربعة [19] ، مقدمين  لأبي بكر   وعمر   وعثمان  على المنابر . فلم يقاتل [20] أحد من شيعتهم ولا من شيعة بني أمية  قدحا في خلافة الثلاثة . 
والذين خرجوا عليهم مثل محمد بن عبد الله بن الحسن  بالمدينة  ، وأخيه إبراهيم  بالبصرة  ، إنما [21] خرجا - ومن معهما - على المنصور  ، لا  [ ص: 342 ] على من يتولى  أبا بكر   وعمر  ، بل الذين كانوا معهما بالمدينة  والبصرة  كلهم كانوا يتولون  أبا بكر   وعمر   . 
فهذه - وأمثالها - الفتن الكبار التي كانت في السلف وكذلك لما صار عبد الرحمن  الداخل إلى الأندلس  ودامت ولايته مدة طويلة لم يكن النزاع بينه وبين العباسيين  على خلافة  أبي بكر   وعمر   وعثمان  [22]  . 
فهذه الولايات الكبار التي كانت في الإسلام ، القائمون فيها والخارجون على الولاة لم يكن قتالهم فيها على قاعدة الإمامة ، التي يختلف فيها أهل السنة والرافضة   . وإنما ظهر من دعا إلى الرفض  [23] ، وتسمى بأمير المؤمنين [24] ، وأظهر القتال على ذلك ، وحصل لهم ملك وأعوان مدة بني [25] عبيد الله  [26] القداح ، الذين أقاموا بالمغرب  مدة ، وبمصر  نحو مائتي سنة . 
وهؤلاء - باتفاق أهل العلم والدين - كانوا [27] ملاحدة ، ونسبهم باطل ، فلم يكن لهم بالرسول اتصال نسب في الباطن ولا دين ، وإنما أظهروا النسب الكاذب وأظهروا التشيع ، ليتوسلوا بذلك إلى متابعة الشيعة  ، إذ كانت أقل الطوائف عقلا ودينا ، وأكثرها جهلا ، وإلا فأمر  [ ص: 343 ] هؤلاء العبيدية  المنتسبين إلى  إسماعيل بن جعفر  أظهر من أن يخفى على  مسلم   . ولهذا جميع المسلمين - الذين هم مؤمنون - في طوائف الشيعة  يتبرأون [28] منهم ، فالزيدية  والإمامية  تكفرهم وتتبرأ منهم ، وإنما ينتسب إليهم الإسماعيلية  الملاحدة ، الذين فيهم من الكفر ما ليس لليهود  والنصارى  ، كابن الصباح  [29] الذي أخرج [30] لهم السكين . 
وشر منهم قرامطة البحرين  ، أصحاب أبي سعيد الجنابي  [31] ، فإن أولئك لم يكونوا يتظاهرون بدين الإسلام بالكلية ، بل قتلوا  الحجاج  ، وأخذوا الحجر الأسود   . 
فهذه - وأمثالها - الملاحم والفتن [32] التي كانت في الإسلام ، ليس فيها ما وقع القتال فيه حقيقة على قاعدة الإمامة التي تدعيها الرافضة  ، وإن ذكر بعض الخارجين ببعض البلاد من يدعو إلى نفسه ، ومعه من يقاتل ، فهؤلاء من جنس سكان الجبال وأهل البوادي والأمصار الصغار من الرافضة  ، وهم طائفة قليلة مقموعون [33] مع جمهور المسلمين ، ليس لهم سيف مسلول على الجمهور ، حتى يقول القائل : أعظم خلاف وقع بين الأمة خلاف الإمامة ، أو ما سل في الإسلام سيف مثل ما سل على الإمامة في كل زمان . 
 [ ص: 344 ] وإن كان صاحب هذا القول يعني به أنه إنما يقتتل [34] الناس على الإمامة ، التي هي ولاية شخص في ذلك الزمان . فقوم يقاتلون معه ، وقوم يخرجون عليه . 
فهذا ليس من مذهب السنة والشيعة  في شيء ; فإن من المعلوم أن الناس الذين دينهم واحد ونبيهم واحد ، إذا اقتتلوا ، فلا بد أن يكون لهؤلاء من يقدمونه فيجعلونه متوليا ، ولهؤلاء من يقدمونه فيجعلونه متوليا ، فيقاتل كل قوم على إمارة من جعلوه هم إمامهم . 
لكن هؤلاء لا يقاتلون على القاعدة الدينية ، من كون الإمامة ثبتت [35] بالنص  لعلي  [36] ، ولا أن خلافة الثلاثة باطلة . بل عامة هؤلاء معترفون بإمامة الثلاثة . 
ثم قد تبين أن الصحابة لم يقتتلوا على خلافة  أبي بكر    [37]  وعمر   وعثمان  والنزاع بينهم . فتبين أن خلافتهم كانت بلا سيف مسلول أصلا ، وإنما كان السيف مسلولا في خلافة علي . فإن كان هذا قدحا ، فالقدح يختص بمن كان السيف في زمانه بين الأمة . 
وهذه حجة للخوارج  ، وحجتهم أقوى من حجة الشيعة  ، كما أن سيوفهم أقوى من سيوف الشيعة  ، ودينهم أصح ، وهم صادقون لا يكذبون ، ومع هذا فقد ثبت بالسنة المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه  [ ص: 345 ] وسلم - واتفاق أصحابه أنهم مبتدعون مخطئون ضلال ، فكيف بالرافضة  ، الذين هم أبعد منهم عن العقل والعلم والدين والصدق والشجاعة والورع وعامة خصال الخير ؟ ! . 
ولم يعرف في الطوائف أعظم من سيف الخوارج  ، ومع هذا فلم يقاتل القوم على خلافة  أبي بكر  وعمر ، بل هم متفقون على إمامتهما وموالاتهما   . 
				
						
						
